تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأشار الأستاذ القطان إلى أن خواص كل لغة تختلف عن الأخرى في ترتيب أجزاء الجملة. وخلص من ذلك إلى القول بأن ترجمة القرآن الحرفية – مهما كان المترجم على دراية باللغات وأساليبها وتراكيبها – تخرج القرآن عن أن يكون قرآناً.

ونقل الأستاذ قطان ما ذكره الشاطبي في الموافقات وهو للقرآن معان أصلية ومعان ثانوية. والمراد بالمعاني الأصلية التي يستوي في فهمها كل من عرف مدلولات الألفاظ المفردة وعرف وجوه تراكيبها معرفة إجمالية. والمراد بالمعاني الثانوية خواص النظم التي يرتفع بها شأن الكلام، وبها كان القرآن معجزاً.

وذكر الأستاذ القطان أن ترجمة معاني القرآن الثانوية أمر غير ميسور، لأن وجوه البلاغة القرآنية في اللفظ أو التركيب (لا يفي بحقها في أداء معناها لغة أخرى لأن أي لغة لا تحمل تلك الخواص). أما المعاني الأصلية فهي التي يمكن نقلها إلى لغة أخرى.

لم يميز الإمام الجرجاني بين معان أصلية ومعان ثانوية للقرآن الكريم، بل جاء في "دلائل الإعجاز في علم المعاني" بنظرية لغوية تطرقت إلى فلسفة اللغة وبيان ارتباطها بالتفكير، وبحثت في نشأة اللغة ووظيفتها الأساسية كوسيلة لاتصال الناس بعضهم ببعض. وحدد الجرجاني في ضوء ذلك معنى الفصاحة والبلاغة وشرح مفهوم نظم الكلم ومعاني الكلام، وبيّن ارتباط معاني النحو بالدلالات العقلية لمعاني الكلم وأن نظم الكلم هو توخي معاني النحو، وأشار إلى أن الاستعارة وسائر ضروب المجاز من مقتضيات النظم. وهكذا نرى أن الجرجاني أكد على ضرورة الربط بين النحو والبلاغة.

أما التمييز بين معان أصلية ومعان ثانوية للقرآن فينطلق برأيي من الفصل بين النحو والبلاغة. ويؤدي ذلك إلى القول بأن النحو يختص بصحة العبارة في ذاتها بصرف النظر عن صلتها بالقراء والسامعين (وهو ما يعبرون عنه بالمعنى الأصلي)، وبأن البلاغة تختص بعرض الأفكار والمعلومات عرضا ملائماً للمخاطبين (31) (وهو ما يعبرون عنه بالمعنى الثانوية).

إني أرى أن فصل البلاغة عن النحو ينعكس سلبياً على فهم خصائص بنية العربية وينعكس بالتالي على فهم إعجاز القرآن لأنه يؤدي إلى القول بأن القرآن معجز فقط في بعض مواضعه. وكنت قد وجهت الدعوة (32) إلى إعادة توحيد صرف العربية ونحوها ومعانيها في علم واحد، يبيّن خصائص بنية العربية ويؤكد على الوظيفة الأساسية للغة كوسيلة للاتصال بين الناس، ونطلق من نظرية الإمام الجرجاني اللغوية التي تستوجب دراسة الجملة من حيث بنيتها النحوية (الساكنة) ومن حيث بنيتها الإخبارية (الديناميكية) التي ترتبط بالسياق الكلامي الفعلي الذي تدخل فيه وبالموقف أو الحال الذي يقال الكلام فيه.

وأرى في ضوء ما عرضته أن التمييز بشكل عام بين نوعين من الترجمة (حرفية ومعنوية) ضروري للتأكيد فقط أن الترجمة الجيدة يجب أن تكون معنوية دوماً. أما الترجمة الحرفية فهي بالضرورة ترجمة سيئة لا توفي المعنى حقه وقد تشوهه، لأنها تقوم على نقل الألفاظ المفردة من لغة إلى أخرى مع التقيد الصارم برتيبها في اللغة الأصل. وقد يرى بعضهم أن الترجمة الحرفية هي المثلى، لأن طرق التفكير الإنساني واحدة ويجب أن تتطابق المقولات اللغوية والمقولات المنطقية في جميع اللغات. ولكن الأمر ليس كذلك، فبالرغم من أن قوانين المنطق تعكس الخصائص العامة للتفكير الإنساني المشتركة بين جميع أفراد الجنس البشري، أي أنه بالرغم من أن طرق التفكير الإنساني واحدة بالنسبة لجميع البشر، فإن طرق التعبير اللغوي عن الأفكار الإنسانية يمكن أن تكون مختلفة لأنها تتحدد بالخصائص البنيوية للغة التي يتم بها التعبير عن تلك الأفكار.

وعليه فإن ترجمة القرآن إلى غير العربية (سواء أكانت حرفية أم معنوية) ليست قرآناً بل هي ترجمة لمعاني القرآن. وتتميز الترجمة الحرفية للقرآن فوق ذلك بأنها ترجمة غير وافية بمعاني القرآن. ولذا اعترضت لدى مناقشة محاضرة الدكتور محمد نوري عثمانوف التي ألقاها في المؤتمر العالمي لتاريخ الحضارة العربية الإسلامية بعنوان "مزايا ترجمة القرآن إلى الروسية للأكاديمي أغناتي كراتشكوفسكي"- على فقرة وردت فيها تعتبر أن من مزايا تلك الترجمة (تقيد كراتشكوفسكي بترتيب الكلمات في الجملة العربية حين يكون ذلك ممكناً لدى الترجمة إلى الروسية). والسبب في الاعتراض أن وظيفة ترتيب الكلمات في الجملة تتحدد

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير