ثم إن ما ذكره القرآن الكريم عن مسألة سيدنا عيسى عليه السلام لا بد أن يفهم في سياق الوحدة البنائية للقرآن كاملا، فمثلا يقول تعالى: {إني متوفيك ورافعك إلي}، أولا قضية الرفع .. الرفع لا يعني ما هو متبادر إلى الأذهان في هذه المسألة بالذات من رفعه حيًّا إلى السماء، فالرفع في القرآن جاء بمعنى آخر مثلا في قوله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات}، وقوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}.
إذا نحن أمام مفهوم قرآني اسمه "الرفع" هذا المفهوم القرآني موجود وشائع في معظم السور، ليس فيه ما يشير إلى رفع حسي .. وشُبَهُ الحياة والرفع هي شبه نصرانية؛ لأن النصارى انقسموا إلى عدة مذاهب في قضية السيد المسيح.
قسم منهم قالوا صُلب وانتهى، وقسم آخر قالوا صلب واستطاعت مريم المجدلية وأمه أن ترشيا الحرس الواقف على القبر لكي يترك مجالا لتنفسه داخل القبر، فترك فتحة يتنفس السيد المسيح منها، وقدموا رشوة لكي ينصرف الحراس عن حراسة قبر السيد المسيح فانصرفوا، فجاءت مريم المجدلية وأمه وأخرجتا السيد المسيح، وتناول عشاء الفصح مع طلابه الذين كان معظمهم في شك أنه السيد المسيح، فكان بعضهم يلمسه، وكان بعضهم يسأله وذلك حسب رواياتهم هم .. ثم تزوج بعد ذلك مريم المجدلية، وأنجب منها أطفالا وعاش حياة عادية إلى أن مات .. هذه روايات نصرانية ليست روايتنا نحن.
وقسم منهم قالوا: شبه لهم فاشتبهوا بالواشي نفسه .. الله أراد أن يخزيه بأن ألقى عليه شبه السيد المسيح فقُتل هو، وهرب السيد المسيح .. نجا في كل الأحوال سواء أخذنا بالرواية النصرانية الأولى أو الرواية الأخيرة، هو عاش حياة عادية ثم مات .. هذا عند النصارى ..
أما نحن فقد اشتبهت علينا كلمة "رافعك"، وهي حسب ما يفهم الكثيرون تعني أنه رفع إلى السماء حيا لينزل ثانية، وهذا تناقض .. فالقرآن قال في نفس الآية التي جاء فيها مصطلح الرفع {إني متوفيك}، وهم انشغلوا بالشبيه وصلبوا الشبيه وقتلوه وهو هرب .. فلماذا يرفعه؟ لا شيء يستوجب الرفع؟ وما الداعي إلى رفعه؟ لا شيء .. وإذا كان رفعًا فهذا يناقض {شُبه لهم} إذن هم أتوا به للصلب والله رفعه!!
حتى عقولهم لم تسمح باكتشاف التناقض بين أقوالهم مع القرآن الكريم، مع نفس الآية التي يستدلون بها إما شبه لهم وهو نَجَا، وهذا صحيح ولا داعي للرفع بالمعنى الذي يفهمونه، فهو اختفى عن الناس في مكان ما، قيل إنه اختفى في مصر وتزوج وأنجب ابنين أو ابنًا وبنتًا إلى آخره، ثم توفاه الله وعاش حياة عادية؛ لأنه لم يدع بعد ذلك.
وهذا التناقض موجود في روايات الإنجيل وفي الأحاديث الواردة عندنا وأقوال المفسرين، فيجب أن نحل هذا التناقض {متوفيك ورافعك إلي} رافعك روحًا والأرواح كلها ترفع إلى الله تعالى، فمنها من يوضع في الجحيم، ومنها من يوضع في عليين {كتاب مرقوم يشهده المقربون} فرفعه جل شأنه رفع روحه.
والدليل على ذلك هو ورود مصطلح الرفع في القرآن كما قلنا بهذا المعنى، فالكل يرفع بهذه الطريقة، الشهداء والعمل الصالح وغيرهم .. فلا بد من تحرير مفهوم الرفع؛ لأننا إذا حررناه فلن يكون عندنا شيء يضطرنا بأن نقول رفع روحًا وجسدًا.
* إذن تعتقد أن تحرير مصطلح الرفع هو فيصل هذا الموضوع؟
- نعم .. تحرير مصطلح الرفع سوف ينهي فكرة أنه رفع لكي يكون أمانة وينزل ثانية .. "متوفيك" هي تنفي عملية العودة؛ لأنه قال {إني متوفيك ورافعك إلي} فإن بعد الوفاة حرف عطف أي أرفعك روحًا.
أما الإشكال الأكبر في فهم هذه القضية فهو عند المفسرين في سورة الزخرف، حينما قال تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون .. وقالوا أألهتنا خير أم هو} وهنا يفسر ويبين القرآن الكريم {إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل .. } ولاحظ ليس إلى العالم كله، ثم يأتي بعد ذلك قوله تعالى {ولو نشاء .. } هذا التفات ما له علاقة بالآية هذه إلا المجاورة المناسبة .. {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون}.
الوحدة البنائية للقرآن
*لكن هذه قراءة جديدة لهذا النص القرآني .. على أي شيء اعتمدت فضيلتكم فيها .. ؟
¥