*أولهما ثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور الصحابة في الآذان من غير نص، وذلك دليل على طلب الحق في الدين من غير النصوص والظواهر (39) يقول ابن العربي عقب حديث الآذان:"وفي هذا الحديث دليل على أصل عظيم من أصول الفقه، وهو القول في الدين بالقياس والاجتهاد، إلا ترى إلى مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في الآذان ولم ينتظر في ذلك من الله وحي ولا طلب منه بيانا، وإنما أراد أن يأخذ فيه ما عند أصحابه من رأي يستنبطونه من أصول الشريعة وينتزعونه من أغراضها". (40)
*ثانيهما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، فيكون أول من رفع رأسه، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أرفع رأسه قبلي، أو كان من ممن استثنى الله." (41) قال ابن العربي:"توقف النبي صلى الله عليه وسلم في تعيين وجه سبق موسى بالإفاقة مع تطرق الاحتمال إليه، دليل على أنه يجوز التكلم باجتهاد في غير الأحكام المعمول بها في مصالح الدنيا ونظامها من أمور الآخرة وما والاها. وقد صرح علمائنا بأن الاجتهاد إنما يكون في أحكام العمل وهذا نص في الرد عليهم. (42) والواقع أن النص الذي ذكره ابن العربي لا يدل على أي اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم بل هو إخبار عن عدم العلم،فالاستدلال به ضعيف.
هذا هو تصور ابن العربي للاجتهاد وأهميته ومجالاته، وهو تصور عميق ودقيق يدل على فهم عميق لنصوص الشريعة وسبر أغوارها كما يدل على جرأة فائقة وقدرة على الجهر بالحق كلما لاحت بارقة، وكيف لا يكون ذلك من رجل استشعر من نفسه قدرة النظر والانفراد بالرأي ومصاولة الأقران ومزاحمة المجتهدين.
المطلب الثالث: مكانة ابن العربي بين طبقات المجتهدين
لبيان مكانة ابن العربي بين طبقات المجتهدين، ينبغي أن نبين مراتب المجتهدين حسب تصنيف علماء الأصول لنتبين المكانة التي يمكن وضع ابن العربي فيها، والتي صرح هو نفسه أنه ينتسب إليها، فالعلماء يصنفون المجتهدين أربعة أصناف:
1 - المجتهد المطلق: وهو الذي يعتمد في استنباط الأحكام على الكتاب والسنة والإجماع والقياس والآثار. وله أصول يتبعها في الاستنباط دون أن يقلد أحدا من المجتهدين، وقد صرح النووي وغيره أن المجتهد المطلق يتميز بثلاث خصال:
الأولى: التصرف في الأصول والقواعد التي عليها تم بناء مجتهداته.
الثانية: تتبع الآيات والآثار بمعرفة الأحكام التي سبق الجواب فيها، واختيار بعض الأدلة المتعارضة على بعض، وبيان الراجح من محتملاته والتنبيه لمآخذ الأحكام من تلك الأدلة.
الثالثة: الكلام في المسائل التي لم يسبق بالجواب فيها أحد من تلك الأدلة (43) وقد نشأ هذا الاجتهاد في عصر الصحابة والتابعين، وأستمر بعده إلى أئمة المذاهب، فكان كل مجتهد يتحرى الصواب دون تقيد برأي مجتهد آخر وغير ملزم أحدا برأيه. (44)
وعن هذا الاجتهاد نشأت المذاهب الفقهيه الباقية والمندثرة، وجملتها أربعة عشر مذهبا لرأبعه عشر إماما من أهل السنة والجماعة، غير أنه قد كتب لبعضها الانتشار والبقاء بسبب علماء من أتباعها دونوها كالمذاهب الأربعة المشهورة، وكالمذهب الظاهري الذي دونه ابن حزم في كتابه المحلى، وكبعض المذاهب الشيعية مثل مذهب الزيدية ومذهب جعفر الصادق، ولم يكتب البقاء لبعضها الآخر لأنها لم تدون كمذهب الحسن البصري والأوزاعي وسفيان الثوري والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وأبن جرير الطبري (45) وقد صرح النووي أن الاجتهاد المطلق فقد من رأس المائة الأربعة فلم يمكن وجوده. (46)
2 - المجتهد المنتسب: وهو الذي ينتسب إلى إمام من أئمة الاجتهاد المطلق، لكن له القدرة على النظر والاستنباط من نصوص الكتاب والسنة رأسا أخذا بأصول الإمام الذي انتسب إليه مقلدا له فيها ومخالفا له في الفروع، وإن انتهى إلى نتائج مشابهة في الجملة لما وصل إليه الإمام. (47) يقول ولي الله الدهلوي موضحا هاته الرتبة:" أن يكون أكبر همه معرفة المسائل التي قد أجاب فيها المجتهدون من قبل من أدلتها التفصيلية ونقدها وتنقيح أخذها وترجيح بضعها على بعض وهذا أمر جليل لا يتم له إلا بإمام يتأسى به قد كفي معرفة فرش المسائل
¥