كانت هذه وقفة يسيرة مع قصة قارون بسردها القصصي المجرد , بعيدا عن روح القصة , وبعيدا عن مضمونها الأصيل , ولنا أوبة جديدة إلى القصة , نكشط عنها رغوة الشخوص والمسميات والأحداث لنخلص إلى اللبن السائغ النافع للمجتمع المسلم.
وقبل الحديث عن قصة قارون يستحسن أن نتناول سورة القصص بعجالة سريعة , نخلص منها لمضمون السورة العام وخطوطها الأساسية , إذ كان فهم السورة مجملة بخطوطها الأساسية باب لفهم القصة لتي وردت في السورة , لأن القصة التي ترد في السورة إن هي إلا حلقة من حلقاتها , تدور حيث تدور قطاعات السورة , وتتناول ما تناولته السورة.
فسورة القصص سورة مكية , نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة , والقوة والسلطان والمال في المشركين , نزلت والناس تتنازعهم قيم الحياة الزائفة منها والأصيلة , قيمة الإيمان الثابتة الأصيلة , تقابلها قيمة الملك والسلطان ممثلة في فرعون وجنده , وقيمة المال والغنى ممثلة في قارون وهي قيم زائفة من قيم الحياة.
فمن الناس من استعز بالمال والملك , حتى نزت به البطنة , فطغى به غناه كالوليد ابن المغيرة المخزومي الذي كان يقول: أنا الوحيد ابن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي المغيرة نظير وهو الذي أنزل الله فيه
{ذرني ومن خلقت وحيدا* وجعلت له مالا ممدودا* وبنين شهودا* ومهدت له تمهيدا* ثم يطمع أن أزيد}
ومنهم من استقوى بالسلطان والنفوذ كأبي جهل وأبي لهب وغيرهم من سادة المشركين وكبرائهم.
ومنهم من استعلى بالإيمان واستقوى بالله , وتلك هي الثلة المؤمنة التي التفت حول النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة من الدعوة في مكة , فنزلت سورة القصص تتناول هذه القيم بأسلوب قصصي مؤثر , نزلت لتقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود هي قوة الله , وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون هي قيمة الإيمان , فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه , ولو كان مجردا من كل مظاهر القوة , ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى , ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله , ومن استحب العمى على الهدى فليس بنافعه شيء في الأرض ..
ولذلك تناولت السورة قصتي فرعون وقارون , لتقرر في الأولى أن قيمة الإيمان أثبت وأقوى من قيمة الملك والسلطان , وتقرر في الثانية أن قيمة الإيمان أغنى لصاحبها من قيمة المال حتى ولو بلغ ما بلغه مال قارون.
وبين القصتين يوجه القرآن أبصار المشركين وبصائرهم للحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم , يبصرهم وهو يريهم آيات الله المبثوثة في مشاهد الكون تارة , ويبصرهم وهو ينبئهم عاقبة الغابرين تارة , ويبصرهم وهو يسوق بعض مشاهد القيامة تارة , وكلها تدور حول مضمون السورة الأصيل , وكلها تتوالى على القلب لتقرر فيه تلك القيمة الثابتة الأصيلة .. قيمة الإيمان.
ونجد السورة تقرر هذه القيمة –قيمة الإيمان-مرة أخرى حين تعقب على قول المشركين
{وقالوا عن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا}
فتجيء قصة فرعون تقول لهم إن القوة إنما هي قوة الله , فمن كان مع الله فإنما هو في الجناب الآمن ولو كان في شعاب الهلاك , وأن الطغيان والاستبداد وإن انتفش في الحياة وكبر , فإنما هو شجرة خبيثة ما لها من قرار , تذهب بها قصفة من قصفات الرحمن.
{فأخذناه هو وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين}
ثم يذكرهم الله تعالى ردا على تخوفهم الموهوم , يذكرهم انه سبحانه هو الذي جعل لهم هذا الحرم أمنا
{أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شي رزقا من لدنا؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون}
وهكذا نجد أن السورة تدور حول تقرير قيم الحياة العارضة من قيم الحياة الأصيلة بأسلوب قصصي حي متحرك , وهذه هي خطوطها الأساسية ..
* * *
والآن .. نرجع لقارون بعد هذه العجالة ..
فقصة قارون حلقة من حلقات السورة المجملة , تتناول ما كانت السورة بصدده , وإذا كانت السورة قد تناولت مع فرعون قيمة الملك والسلطان إزاء قيمة الإيمان , فهي مع قارون تتناول قيمة المال والغنى إزاء قيمة الإيمان , ويدور حول هاتين القيمتين ثلاث أصناف من الناس.
¥