المراد لجاءت الصيغة صريحة بقوله: "سيأتي أمر الله". ومع ذلك لا نقف عند حدود الدلالة الصرفية اللفظية لنقول: بأنه فعل ماضٍ قد وقع وحصل؛ فالقرينة السياقية تمنع ذلك وهي قوله: "فلا تستعجلوه"، وإنما نجمع بين الدلالتين الصرفية والنحوية، الإفرادية والتركيبية، لنقول: إن المراد "هو توظيف الصيغة في معنى الاستقبال متضمنة معنى المضي وموظفة له في الوقت نفسه، فكأن مقصود الآية أن تقول: سيأتي أمر الله لا محالة مجيئاً مقطوعاً به، بل هو في حكم ما وقع وأتى بالفعل" ().
ونلحظ أن مجيء الأفعال في السياق القرآني كثيراً ما يخرج عن النمط المألوف للغة من حيث التصرف في أزمنة الفعل، وذلك كالتعبير عن الحدث الماضي بالمضارع والتعبير عن الحدث المستقبل بالزمن الماضي، وكثيراً ما نجد السياق القرآني لا يجري على نمط واحد في المطابقة الزمنية بين الأفعال، إذ يحصل تصرف في التحول الداخلي للسياق نفسه بالمخالفة في أزمنة الأفعال، كأن يرد في السياق ذكر الفعل المضارع ثم ينكسر النسق السياقي بمجيء الفعل الماضي في السياق نفسه أو العكس، مما يثير التساؤل عن معرفة سبب ذلك التحول ودلالته التعبيرية في السياق القرآني.
وهذا التحول "يكشف عن تصادم الأزمنة على مستوى البنية السطحية مما يدفع المتلقي إلى الانتباه والتفاعل مع النص، ومحاولة إعادة التوافق بين صيغ الأفعال وأزمنتها في البنية العميقة" ().
فالبنية العميقة تستوجب المطابقة في أزمنة الفعل في السياق اللغوي، والتحول عنها إلى البنية السطحية التي برزت على سطح النص تستدعي تحولاً في المعنى يرافق هذا التحول في المبنى.
وقد توقف علماؤنا عند هذا النوع من التحول وعدّوه ضرباً من البلاغة، يقول ابن الأثير (ت 636هـ): "واعلم أيها المتوشح لمعرفة علم البيان أن التحول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية، اقتضت ذلك، وهو لا يتوخّاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة الذي اطّلع على أسرارها، وفتّش عن دفائنها، ولا تجد ذلك في كل كلام، فإنه من أشكل ضروب علم البيان، وأدقها فهماً وأغمضها طريقاً" ().
ونحن في تناولنا لهذا التحول في صيغ الأفعال، لا نتناولها من الناحية الصرفية، وإنما نتناولها من حيث دلالة الزمن النحوي الذي وردت فيه في السياق.
إذ تناول هذه الصيغ مفردة خارج السياق اللغوي يعد تناولاً صرفياً، وتناولها في السياق الواردة فيه من حيث الدلالة الزمنية يعد تناولاً نحوياً سياقياً، كما سبقت الإشارة إليه.
المبحث الثاني: صور التحولات في الأفعال:-
تتمثل التحولات في الأفعال في ست صور هي على النحو الآتي:
الصورة الأولى: التحول عن الفعل الماضي إلى المضارع:
مجيء المضارع بعد الماضي في هذا الضرب من التحول يكون على نوعين (): نوع يستعمل فيه المضارع للدلالة على حدث قد مضى وانقضى، ونوع آخر يستعمل فيه المضارع للدلالة على حدث يقع في الحال والاستقبال.
أما النوع الأول: فمجيء المضارع فيه للدلالة على حدث قد مضى، وقد قرر علماء البلاغة أن المضارع في الحالة هذه يقصد به استحضار الصورة للحدث الماضي، وكأنه أمر مشاهد بارز للعيان، يقول ابن الأثير (): "واعلم أن الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل، كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي، وذلك لأن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي". وهذا ما أطلق عليه الزمخشري (ت 538هـ) مصطلح "حكاية الحال". يقول الزمخشري عند قوله تعالى: ?وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ ميِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ? [فاطر، 9]. فإن قلت لم جاء "فَتُثِيرُ" على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟ قلت: ليحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية" ().
¥