فالسياق هو الذي أضفى على الفعل المضارع في هذه الحالة دلالة زمنية معينة، وذلك من عطف الفعل المضارع على الفعل الماضي، إذ يقتضي السياق بموجب المطابقة الزمنية أن تجري الأفعال الواردة فيه على نسق واحد، يقول السيوطي (ت 911هـ) (): "وما عطف على حال أو مستقبل أو ماضٍ أو عطف عليه ذلك فهو مثله؛ لاشتراط اتحاد الزمان في الفعلين المتعاطفين".
فمجيء الفعل المضارع في الحالة هذه خارجاً عن النسق العام للسياق يؤدي إلى توليد بارزتين في السياق، دلالة نحوية متمثلة في الفعل المضارع الدال على الزمن الحاضر أو الاستقبال، ودلالة سياقية متمثلة في الإشارة إلى الزمن الماضي، وذلك بالعطف على الماضي أو مجيئه بعده، فالدلالة السياقية تقتضي مضيه والدلالة النحوية للصيغة تقتضي استحضاره، فيجمع بين الدلالتين ليقال: إنه الماضي الحاضر، أو بعبارة (فندريس) هو "المضارع التاريخي"، وذلك "استعمال شائع في الحكاية حيث يسمى بالحاضر التاريخي، وفيه يجد المثقفون سحراًَ خاصاً، يقولون بأن الحاضر أكثر تعبيراً أو أبلغ حتى ليجعل المنظر يحيا من جديد أمام عيني القاريء، ويرجع بفكرنا إلى اللحظة التي دار فيها الحديث" ().
ومن أمثلة هذا المضارع التاريخي ما جاء في حديث عبد الله بن عتيك حين دخل على أبي رافع اليهودي حصنه، قال: فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم لا أدري أنى هو من البيت، فقلت: أبا رافع، فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف وأنا دهش" ().
ففي هذا النص نجد أن الفعل المضارع (أضرب) يدل في معناه على حدث مضى وانقضى، بدلالة السياق على ذلك، إذ كل أحداثه ماضية (فانتهيت .. فقلت .. فأهويت .. )، وكان حق الفعل (أضرب) أن يرد ماضياً فيكون (فأهويت نحو الصوت فضربته وأنا دهش) لكنه تحول عن الماضي إلى المضارع؛ لاستحضار الحدث وكأنه مشاهد للعيان؛ لأن الموقف موقف تعجب ودهشة.
ومنه أيضاً قول تأبط شراً ():
ألا مَنْ مُبْلغٌ فِتَيانَ فَهْمِ
بِأَنِّي قَدْ لَقِيتُ الغُولَ تَهْويَ
فأضربُها بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّتْ
بِمَا لاَقَيْتُ عِنْدَ رَحى بِطَانِ
بِسَهْبٍ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانَ
صَرِيْعَاً لليديْن وَلِلْجِرَانِ
فالمستوى السطحي (): لقيتُ ? ? أضربها
ماضٍ? ? مضارع
والمستوى العميق: لقيتُ فضربتها
ماضٍ ماضٍ
فالسياق الزمني للأبيات يسير على جهة الإخبار بالماضي (لاقيت، لقيت)، والشاعر في هذا الموقف يريد أن يخبر على سبيل السرد والحكاية عن واقعة مدهشة حصلت له، فأتى بـ (ألا) الاستفتاحية ليشد انتباه السامعين لسماع السرد والحكاية، ثم يذكر المكان "رحى بطان" ويثير الرعب والخوف بذكر اسم "الغول"، وأنه لقاه بمكان خلاء لا ملجأ فيه ولا احتماء، ثم بعد السرد الحكائي بصيغة المضي تحول إلى الفعل المضارع. لحظة المواجهة الحاسمة مع الغول، فقال: "فأضربها" وذلك أنه "قصد أن يصور لقومه الحال التي تشجع فيها على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها مشاهدة، للتعجب من جراءته على ذلك الهول، ولو قال: "فضربتها" عطفاً على الأول؛ لزالت هذه الفائدة المذكورة" ().
ويقول ابن الأثير (): "فإن قيل: إن الفعل الماضي أيضاً يتخيل منه السامع ما يتخيله من المستقبل، قلت في الجواب: إن التخيل يقع في الفعلين معاً، لكنه في أحدهما وهو المستقبل أوكد وأشد تخيّلاً؛ لأنه يستحضر صورة الفعل، حتى كأن السامع ينظر إلى فاعلها في حال وجود الفعل منه، ألا ترى لما قال تأبط شراً "فأضربها" تخيّل للسامع أنه مباشر للفعل، وأنه قائم بإزاء الغول، وقد رفع سيفه لضربها، وهذا لا يوجد في الفعل الماضي؛ لأنه لا يتخيل السامع منه إلا فعلاً قد مضى من غير إحضار للصورة في حالة سماع الكلام الدال عليه، وهذا لا خلاف فيه".
وعد السكاكي (626هـ) هذا النوع من التحول أصلاً بلاغياً ثابتاً إذا اقتضى السياق اللجوء إليه، فقال (): "وإنه -أي الانتقال من التعبير بالماضي إلى المضارع- طريق للبلغاء لا يتحولون عنه، إذا اقتضى المقام سلوكه".
¥