تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويرد هذا النوع من التحول بكثرة في الكتاب العزيز، ويعد من روائع البيان فيه، إذ عمد القرآن الكريم إلى صورة مغرقة في القدم فاستدعاها من الماضي السحيق إلى الزمن الحاضر؛ لتصبح كأنها مشاهدة ماثلة للعيان، من ذلك قوله تعالى مخاطباً اليهود: ?أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ? [البقرة، 87].

ففي هذا السياق حصل تحول عن الفعل الماضي "كذبتم" إلى الفعل المضارع "تقتلون" وكان مقتضى السياق بموجب المطابقة الزمنية بين الأفعال أن يكون على النحو "ففريقاً كذبتم وفريقاً قتلتم".

لا سيما أنه يتحدث عن أمر حدث في الزمن الماضي، من تكذيب اليهود للأنبياء وقتلهم إياهم، لكن السياق تحول عن الماضي إلى المضارع؛ لأن قتل الأنبياء أمر فظيع، فأراد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب ().

وسياق هذه الآية يشابهه سياق آخر وهو قوله تعالى: ?وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ? [البقرة، 91].

إذ جاء الفعل المضارع "تقتلون" الدال على الحال مقترناً بظرف الزمان "قبلُ" الدال على الماضي، مما يجعل دلالة الفعل المضارع دالة على الزمن الماضي، فالفعل لا يدل على زمن الحدوث، وإنما يدل على زمن الإخبار، فللفعل الماضي زمانان؛ زمن حدوث ووقوع، وزمن إخبار عنه، وهو ما أشار إليه الزجاجي (ت 337هـ) بقوله (): "والفعل الماضي ما تقضى وأتى عليه زمانان، لا أقل من ذلك، زمان وجد فيه، وزمان خبر فيه عنه".

ونجد أن السياق القرآني قد نسب جريمة القتل إلى الأحفاد عندما خاطبهم فقال: "فلم تقتلون أنبياء الله من قبلُ"، في حين أن القتل قد حصل في الزمن الماضي من الأجداد، وذلك من بلاغة السياق القرآني، إذ أفاد الفعل "تقتلون" الاستمرارية للحدث، كما أفاد الحضور للمشهد في الأذهان، إشارة إلى أن نزعة القتل والإجرام تسري في دماء الأحفاد كما سرت في دماء الأجداد.

وفي ذلك تنبيه في الوقت نفسه على أنهم ذرية بعضها من بعض، وأنهم سواسية في الجرم، فعلى أيهم وضعت يدك فقد وضعتها على الجاني الأثيم؛ لأنهم لا ينفكون عن الاستنان بسنة أسلافهم، أو الرضى عن أفاعيلهم، أو الانطواء على مثل مقاصدهم" ().

وأضفى ظرف الزمن الماضي "قبلُ" على السياق دلالتين، دلالة تفيد إرجاع السياق اللغوي للفعل إلى الزمن الحقيقي للحدوث وهو الماضي، ودلالة أخرى توحي بأن قتل الأنبياء قد كان في الزمن الماضي في حق من سلف منهم، أما هذا النبي فلا يمكنون منه، فالله يعصمه من الناس، يقول دراز (): "ولقد كان التعبير بهذه الصيغة مع ذكر الأنبياء بلفظ عام مما يفتح باباً من الإيحاش لقلب النبي العربي الكريم وباباً من الأطماع لأعدائه في نجح تدابيرهم ومحاولاتهم لقتله، فانظر كيف أسعفنا بالاحتراس عن ذلك كله بقوله "من قبلُ" فقطع بهذه الكلمة أطماعهم وثبت بها قلب حبيبه، إذ كانت بمثابة وعده إياه بعصمته من الناس".

"فإذا أخذنا بدلالة الماضي للظرف "قبلُ" كانت دلالة الفعل "تقتلون"تفيد استحضار الصورة لحدث مضى في الزمان، وإذا أخذنا بما توحيه دلالة "قبلُ" من استحالة حصول الفعل وتحققه بالنسبة لهذا النبي، كانت دلالة الفعل "تقتلون" تفيد تجدد محاولة الفعل منهم والاستمرار، والجمع بينهما نوع من الانفتاح الدلالي للنص القرآني.

ولكننا نجد سياقاً آخر في القرآن الكريم يرد فيه الإخبار بصيغة ضمير الغائب في الحديث عن بني إسرائيل، كما هو الحال في قوله تعالى: ?لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ? [المائدة، 70].

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير