تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذا السياق تنسجم فيه الدلالة الزمنية للسياق الداخلي من خلال الإخبار عمن سبق من بني إسرائيل بصيغة ضمير الغائب "إليهم، جاءهم، أنفسهم" مع السياق الخارجي للزمن الماضي، وبناءً على ذلك فتنصرف دلالة الفعل المضارع "يقتلون"، في الحالة هذه إلى استحضار الصورة لا غير، وليس فيه دلالة استمرار الحدث وتجدده، يقول الزمخشري (ت 538هـ) (): "جيء "يقتلون" على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل واستحضاراً لتلك الحالة الشنيعة للتعجيب منها".

ومما سبق ذكره يمكننا الجمع بين دلالات هذه السياقات المختلفة، لنقول: إن دلالة الفعل "يقتلون" تفيد استحضار صورة قتل الأجداد للأنبياء تبشيعاً لقبح فعلتهم، وذلك من سياق الإخبار عنهم بضمير الغائب، وفيه دلالة على استمرار الحدث وتجدد حصوله من الأبناء والأحفاد وذلك من سياق الخطاب، وفيه تيئيس من تحقق ذلك وحصوله في حق هذا النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا يعد من بلاغة تصريف القول في القرآن الكريم، فقد تم توظيف القيمة الزمنية في صياغة الفعل للحصول على مساحة تتعدد فيها الدلالات للنص وتتسع.

وكما أن وظيفة استحضار الصورة في سياق الآيات السابقة كان لغرض تصوير فظاعة الحدث وقبحه، فكذلك نجد استحضار الصورة في سياق آخر يرد للفت الأنظار إلى موضع القدرة والاعتبار، من ذلك قوله تعالى: ?وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ? [فاطر، 9]. فإنه إنما قال: "فتثير، مستقبلاً، وما قبله وما بعده ماضٍ؛ لذلك المعنى الذي أشرنا إليه وهو حكاية الحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب، واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة" ().

ويتحول الماضي المنفي إلى المضارع المنفي فيفيد الفعل المضارع في هذه الحالة تأكيد النفي، وليس استحضار الصورة كما هو الحال مع المضارع المثبت، وهو ما ذهب إليه ابن جني (ت 392هـ) إذ قال (): "ومنه قولهم: لم يقم زيد، جاءوا فيه بلفظ المضارع وإن كان معناه المضي؛ وذلك أن المضارع أسبق رتبة في النفس من الماضي، ألا ترى أن أول أحوال الحوادث أن تكون معدومة، ثم توجد فيما بعد، فالمضارع معدوم باعتبار أنه لم يقع بعد، أما الماضي فقد وقع وانتهى، فإذا نفي المضارع الذي هو الأصل فما ظنك بالماضي الذي هو الفرع". "وفي هذا النفي نوع من التوكيد، فالتعبير بالمضارع المنفي بدلاً من الماضي لا يفيد عند ابن جني استحضار الصورة، كما يفيد التعبير بالمضارع بصفة عامة، ولكنه يأتي لإرادة التوكيد" ().

وبناء على ما تقدم يكمننا فهم سر التحول في سياق قوله تعالى: ?وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ? [المؤمنون، 76]. فالمتوقع من سياق هذه الآية أن تكون على النحو التالي: "فما استكانوا لربهم وما تضرعوا" لكن السياق القرآني تحول عن الماضي المنفي إلى المضارع المنفي، والسبب في ذلك -والله أعلم- أن حالة التضرع هي مرتبة أعلى في الخضوع من الاستكانة نفسها، إذ التضرع ضرب من الإمعان في الابتهال واللجوء إلى الله تعالى، فنفي ما هو أدنى يستلزم من باب أولى التأكيد في نفي ما هو أعلى رتبة، فإذا انتفت الاستكانة منهم، فمن باب أولى ينتفي حصول أدنى تضرع منهم، لذا تحول السياق في النفي عن الماضي إلى المضارع؛ فنفي المضارع أشد تأكيداً من نفي الماضي، -كما سبق ذكره عند ابن جني- فوافق المقال مقتضى الحال.

ولعل ذلك ما قصده ابن عاشور بقوله (): "والتعبير بالمضارع في "يتضرعون" لدلالته على تجدد انتفاء تضرعهم". إذ يفهم من قوله: "تجدد الانتفاء" تكرار النفي واستمراره وذلك ضرب من التأكيد، وكأني بالسياق يقول: "ما تضرعوا، وما تضرعوا، وما تضرعوا، …"، فقال: "وما يتضرعون"، وهو ما يفهم أيضاً من قول الألوسي (): "وعبر في التضرع بالمضارع ليفيد الدوام، إلا أن المراد دوام النفي، لا نفي الدوام".

ولو جرى السياق على النمط المتوقع فجاء "فما استكانوا لربهم وما تضرعوا" لكان المقصود -والله أعلم- وما تضرعوا التضرع المطلوب لرفع البلاء وكشف العذاب، وإنما جاء "وما يتضرعون" لنفي حصول أدنى شيء من التضرع أصلاً".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير