ولا منافاة فيما قررناه هنا وبين قوله تعالى: ?حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ? [المؤمنون، 64 - 65]. فهناك فرق بين الجؤار والتضرع.
يقول الشهاب الخفاجي (ت 1069هـ) (): "فالتضرع يستعمل فيما إذا كان عن صميم القلب لا باللسان فقط، ولذا عبر عن استغاثتهم أولاً بالجؤار الذي هو من صوت الحيوان، فلا منافاة بينهما كما توهم".
وللتحول إلى المضارع دلالات تخرج عن دلالة استحضار الصورة إلى معانٍ أخرى يشي بها السياق القرآني الكريم، من ذلك دلالة التلطف في الخطاب، وكثرة وقوع الفعل وتكراره، أو تجدده واستمراره، فمن دلالة التلطف في الخطاب قوله تعالى: ?قُل لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ? [سبأ، 25].
لقد كان من المتوقع لدى المتلقي أن يجري السياق على نمط واحد فيكون" قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما أجرمتم"، ولكن السياق القرآني تحول عن الظاهر والمتوقع تحولين، تحولاً معجمياً عن لفظة "أجرم" إلى لفظة "عمل"، وتحولاً نحوياً عن الماضي "أجرمنا" إلى المضارع "تعملون".
وعلل ذلك الألوسي فقال (): "وهذا أبلغ في الإنصاف، حيث عبر عن الهفوات التي لا يخلو منها مؤمن بما يعبر به عن العظائم وأسند إلى النفس، وعن العظائم من الكفر ونحوه بما يعبر عن الهفوات، وأسند للمخاطبين، وزيادة على ذلك أنه ذكر الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي الدالة على التحقق، وعن العمل المنسوب إلى الخصم بصيغة المضارع التي لا تدل على ذلك".
"وهذا أسلوب غاية في الكسب للخصم إلى جانب المتحدث، وطريق بارع في التغاضي عن هفوات الخصم، ووسيلة لتحريك دوافع التفكير في المقول، مما يشير إلى وعي الداعية إلى الله في الأسلوب الذي يدعو به الناس" ().
ومن السياقات القرآنية التي يرد فيها هذا التحول للدلالة على كثرة وقوع الفعل وتكراره قوله تعالى: ?وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون? [الزخرف، 6 - 7].
ففي هذه الآية نجد التحول عن الفعل الماضي "أرسلنا" إلى الفعل المضارع "يأتيهم"، وكان المتوقع بموجب المطابقة بين الأفعال أن يرد السياق على النحو التالي: "وكم أرسلنا … وما أتاهم … إلا استهزؤا به"؛ لأنه يخبر عن حدث مضى، وذلك بقرينة لفظية، وهي قوله "في الأوّلين"، ولكن التحول إلى الفعل المضارع "يأتيهم" في هذا السياق دل على الكثرة والتكرار، فكثرة مجيء الرسل قوبل بكثرة الاستهزاء، والفعل الدال على ذلك "يستهزؤن" مسبوقاً بـ (كان) "وسبق الفعل المضارع بـ (كان) قد يفيد الدلالة على اعتياد الأمر في الماضي، ووقوعه بصورة متكررة" (). قال الرازي (): "والمعنى أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء".
والفرق بين هذا النوع من التحول الدال على الكثرة والتكرار والنوع الآخر الذي يليه الدال على الاستمرار، أن التكرار يتخلله فترات انقطاع، وإن كانت متقاربة في الزمان، في حين أن الاستمرار يقتضي الاتصال.
ومن أمثلة مجيء هذا التحول للدلالة على الاستمرار، قوله تعالى: ?وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ? [البروج، 8].
لقد تحول السياق القرآني عن الفعل الماضي "نقموا" إلى المضارع "يؤمنوا" وكان يتوقع أن يرد السياق على النحو التالي: "وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله العزيز الحميد؛ لأنه يخبر عن حدث مضى وانقضى، وهو ما حصل للفئة المؤمنة على أيدي أعدائهم، واللافت للنظر، هو مجيء الفعل المضارع "إلا أن يؤمنوا" وليس "إلا أن آمنوا"، كما هو الحال في قوله تعالى: ?قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ? [المائدة، 59].
فما السر في مجيء الفعل "نقموا" ماضياً في سياق سورة البروج، والتحول عنه إلى المضارع "يؤمنوا" في السياق نفسه، في حين ورد العكس في سورة المائدة إذ جاء الفعل "تنقمون" مضارعاً وتحول عنه إلى الماضي "آمنا"؟!
¥