والذي يظهر -والله أعلم- أن السياق هو الذي يفرض التعبير المقصود للمعنى المسوق له، فيكون كل سياق قد اختص بتركيب قصد إليه لمعنى، وهو من البلاغة بمكان؛ لأنه يقتضي موافقة الكلام لمقتضى الحال.
إن مجيء الفعل "نقموا" ماضياً في سياق الآية السابقة من سورة البروج يشير إلى أن هذه النقمة مضت وانتهت بهلاك الذين فُتِنُوا من المؤمنين، فليس فيها تجدد واستمرار، ودل التحول إلى صيغة المضارع "إلا أن يؤمنوا" على أن أعداءهم نقموا منهم استمرارهم على الإيمان وثباتهم عليه (). في حين دل سياق الآية من سورة المائدة على أن نقمة أهل الكتاب متجددة مستمرة ضد المسلمين لا تنقطع عنهم بحال، بدلالة الفعل المضارع "تنقمون"، ودل التحول إلى الفعل الماضي "آمنا" أن إيمان المسلمين حاصل متحقق، فهو في حكم الماضي في تحققه وحصوله، فلا مطمع لأعدائهم في ارتدادهم عنه. ويبرز الانفتاح الدلالي للنص القرآني في هذا السياق، ليضيف دلالة أخرى للفعل الماضي مفادها أن إيمان المسلمين ليس حادثاً، وإنما هو امتداد لقافلة الإيمان التي مضت في تاريخ البشرية.
وما سبق ذكره من الآيات القرآنية هي نماذج للنوع الأول الذي يستعمل فيه المضارع للدلالة على حدث مضى وانقضى.
وأما النوع الثاني: فيرد فيه المضارع للدلالة على حدث يقع في الحال والاستقبال.
ويقرر البلاغيون أن مجيء المضارع للدلالة على الحال والاستقبال يفيد التجدد والحدوث، وأن هذا الحدث مستمر الوجود ولم يمض، يقول ابن الأثير (): "وعطف المستقبل على الماضي ينقسم إلى ضربين: أحدهما بلاغي، وهو إخبار عن ماضٍ بمستقبل، والآخر غير بلاغي: وليس إخباراً بمستقبل عن ماضٍ، وإنما هو مستقبل دلّ على معنى مستقبل غير ماضٍ، ويراد به أن ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمضِ".
ويُفهم من كلام ابن الأثير أن هذا النوع من التحول ليس ضرباً من ضروب البلاغة، وما ذهب إليه ليس صحيحاً، إذ البلاغة هي موافقة المقال لمقتضى الحال، وقد جاء هذا التحول ليوافق مقتضى الحال الذي سيق من أجله كما سنوضحه لاحقاً في هذا البحث، وقد استعمل في النصوص الأدبية الراقية لا سيما القرآن الكريم، ولا يكون ذلك إلا لمنحى بلاغي، إذ لا يقع ما ليس بليغاً في كلام الله عزوجل، وقد اعترض محمد أبو موسى على ابن الأثير لإخراجه هذا النوع من التحول من البلاغة فقال (): "ولست أدري لماذا كان هذا القسم غير بلاغي؟ أليست البلاغة نظراً فيما تنطوي عليه خصائص الألفاظ وأحوالها لإبراز معانيها وبيان لطائفها ومطابقتها لبيان الكلام؟ وأليس هذا داخلاً في أحوال اللفظ التي بها يطابق مقتضى الحال؟ "
بل إن ابن الأثير نفسه عند تحليله لنماذج قرآنية من هذا النمط، أشار إلى وجه البلاغة والبيان فيها، مما يوحي بالتضارب لديه ().
ويشير هذا النوع من التحول في السياق القرآني إلى دلالات عديدة منها:
- الدلالة على التجدد والاستمرار للحدث.
- الدلالة على إطالة مشهد الحدث.
- التركيز على نتيجة الحدث.
فمن السياقات التي يدل هذا التحول فيها على التجدد والاستمرار قوله تعالى:
?الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ? [الرعد، 28].
تحول إلى المضارع (تطمئن) لدلالته على تجدد الاطمئنان واستمراره؛ وأنه لا يتخلله شك ولا تردد" ()، ولو جرى السياق على نمط واحد فكان "واطمأنت قلوبهم" لما أفاد معنى التجدد والاستمرار الذي نجده في زمن المضارع الذي أضفى دلالة الزمن المفتوح في الماضي والحاضر والاستقبال، فقلوبهم قد اطمأنت بذكر الله منذ الزمن الماضي وما تزال تطمئن في الحال والاستقبال، في حين ورد ذكر الإيمان بصيغة المضي "آمنوا" لإفادة معنى الحصول والتحقق، فهو ثابت متحقق كتحقق الماضي.
¥