ومنه قوله تعالى: ?وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ? [الرعد، 22]. فقد تحول عن الماضي الصلة "صبروا" وما عطف عليه إلى المضارع "يدرؤون"، وذلك "لاقتضاء المقام إفادة التجدد إيماء إلى أن تجدد هذا الدرء مما يحرص عليه، لأن الناس عرضة للسيئات على تفاوت، فوصف لهم دواء ذلك بأن يدفعوا السيئات بالحسنات" ().
ومن السياقات التي يرد فيها هذا التحول للدلالة على إطالة مشهد الحدث لما في ذلك من التخويف والتهديد قوله تعالى: ?وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ? [الحج، 31].
إذ حصل في هذا السياق تحول عن الفعل الماضي خرّ إلى المضارع "فتخطفه" أو "تهوي"، ولم يأتِ السياق على نمط واحد فيكون "خرّ من السماء فخطفته الطير أو هوت به الريح"، وذلك أن الفعل الماضي يشير في هذا السياق إلى تحقق حصول الخرور من المشرك لا محالة حاله حال الماضي في تحققه، فقال: "خرّ من السماء"، وفيه دلالة على سرعة حصول الخرور والسقوط دون تماسك أو انتظام، كما يوحي به جرس اللفظة "خرّ" وقصرها وخفتها، وتكرار صوت الراء فيها إشارة إلى تكرار السقوط والهوي والتقلب في الهواء، وما أضفاه التفخيم في الخاء والراء من تفخيم لمشهد الهوي نفسه "فالملحوظ هو سرعة الحركة مع عنفها وتعاقب خطواتها في اللفظ بـ "الفاء" وفي المنظر بسرعة الاختفاء" ().
"ثم تحول إلى المضارع "فتخطفه" و"تهوي" لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهوي الريح به" ().
فكان التحول إلى المضارع لاستحضار المشهد وإطالته، وأمعن في إطالة مشهد الهوي أيضاً مجيء الحرف "في" الذي أفاد هنا الإمعان في تصوير التسفل والسقوط، وكأن المكان السحيق قد أصبح ظرفاً ووعاءً له لا ينتهي فيه إلى قرار. ولو قال: "إلى مكان سحيق" لأفاد انتهاء الهوي به إلى منطقة معينة، وذلك يوحي بالتهديد الشديد والإيعاد لمن كان هذا حاله.
ولو جرى السياق على النمط نفسه من المضي لمضى السياق كله على عجالة دون أن يتمكن المتلقي من إمعان النظر والفكر في مشهد الخطف والهوي.
ومثله قوله تعالى: ?اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً? [الحديد، 20].
لقد تحول السياق عن الماضي "أعجب" إلى المضارع "يهيج" و"يكون"، ولو جرى السياق على نمط واحد لجاء: "كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم هاج ثم كان حطاماً"، لكن التحول عن الماضي إلى المضارع في هذا الموضع جاء لمنحى دلالي مقصود، فالسياق القرآني تجاوز لحظة الإعجاب بهذا الزرع، بالإخبار عنها بالزمن الماضي، وكأنها لحظة مضت دون تريث أو إمهال، تلاها على الفور مشهد الفناء والزوال، مخبراً عنه بالزمن الحاضر، حتى يظل مشهد الاندثار كأنه حاضر ماثل للعيان، ولا ينافي ذلك مجيء حرف العطف "ثم"، فهو هنا يفيد التراخي الرتبي لا الزمني ().
إذ يوحي المشهد بالتدرج من لحظة السرور والفرح بهذا النبات، إلى مرحلة شديدة على النفس متمثلة في هيجان الزرع وذبوله، تليها مرحلة أشد من سابقتها وهي مرحلة الاصفرار والاحتضار ().
ويرد هذا التحول للتركيز على نتيجة الحدث نفسها، من ذلك قوله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ?
¥