ولا يسلم له بهذا العموم، وإنما السياق هو الذي يحدد الدلالة المناسبة، فقد يدل التحول إلى الماضي على الاستقرار كما قال، وقد يدل على غير ذلك من تحقق الفعل أو التقليل والانقطاع، وغير ذلك مما يدل عليه السياق ويقتضيه، فمن هذه الدلالات التي يقتضيها السياق:
- الدلالة على سرعة تحقق حصول الفعل وحدوثه.
- الدلالة على أن الفعل سابق للمضارع في التحقق والحصول.
- الدلالة على الاختصاص بوصف ثابت.
- إظهار الرغبة في حصول الفعل.
- إظهار الرغبة في انقطاع الفعل وتغييبه.
من السياقات القرآنية التي يدل التحول فيها إلى الماضي على سرعة تحقق الفعل وحدوثه قوله تعالى: ?وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْض إِلا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ِ? [النمل، 87]. فقد تحول السياق القرآني عن الفعل المضارع "ينفخ" إلى الماضي "ففزع" وكان مقتضى الظاهر للسياق أن يجري على نسق واحد فيكون "فيفزع" لأن الحدث لم يقع بعد، وإنما هو حديث عن المستقبل البعيد وهو يوم القيامة، فدل التحول إلى الماضي على سرعة تحقق الفعل وحصوله مثل تحقق الماضي في حدوثه، وكأنه يتحدث عن أمر قد حدث وحصل في الزمن الماضي () وفيه مزيد من تأكيد لأمر البعث والنشور ودلالة على السرعة والدهشة والذهول، بدلالة مجيء حرف العطف (الفاء).
والتعبير بالفعل الماضي عن المستقبل هو أسلوب من البلاغة بمكان، يقول ابن الأثير (): "والإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل فائدته أن الفعل الماضي إذا أخبر به عن الفعل المستقبل الذي لم يوجد بعد كان ذلك أبلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده؛ لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد، وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها".
وأفاد الفعل المضارع "ينفخ" استحضار صورة الحدث من المستقبل البعيد وهو يوم القيامة حتى لكأنها ماثلة أمام الأنظار، فكما أفاد المضارع في سياقات سابقة استحضار صورة الحدث من الماضي السحيق، كذلك أفاد هنا استحضار الصورة من المستقبل البعيد، ويجمع الاستحضارين عنصر الزمن، وهناك فرق بينهما، فاستحضار الماضي استرجاع لزمن قد حدث بالفعل لإفادة تصويره في النفس، واستحضار المستقبل استباق للزمن كون الحدث لم يحصل لإفادة تحقق وقوعه.
ونجد -أيضاً- في هذا السياق أن الفعلين المضارع "ينفخ" والماضي "ففزع" قد استعملا للإخبار عن المستقبل، ولكن تختلف دلالتاهما، فدلالة المضارع في الإخبار عن المستقبل تفيد استحضار صورة الحدث، ودلالة الماضي تفيد تحقق حدوثه وحصوله.
ومنه قوله تعالى: ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ? [هود، 96 - 98].
لقد تحول السياق عن المضارع "يقدم" إلى الماضي "فأوردهم"، ولو جرى على مقتضى الظاهر لكان على النحو: "سيقدم قومه يوم القيامة وسيوردهم النار"؛ لأن الحديث عن زمن مستقبل وهو يوم القيامة، ومجيء التحول إلى الماضي (فأوردهم) فيه دلالة على القطع والتأكيد بوقوع الحدث وحصوله، وصُدِّرَ الفعل بحرف (الفاء) ليدل على سرعة الورود؛ لما في ذلك من التهديد والتخويف.
وهذا النوع من التحول يخبر عن نتائج محققة لأحداث سابقة لها، تحمل طابع الدهشة والمفاجأة، فَفَزَعُ من في السموات والأرض حدث مفاجيء مترتب على النفخ في الصور، وكذلك ورود فرعون وقومه النار يعقب مشهد قدومه لهم إلى ساحة الحشر بذلة وصغار (). ويرد غالباً في مشاهد البعث والقيامة والحشر؛ لذا أضفى عليها الأسلوب القرآني زمن الماضي في حدوثها لتأكيد تحققها وحصولها ().
ويرد التحول إلى الماضي للدلالة على أنه سابق للمضارع في التحقق والحصول، من ذلك قوله تعالى: ?وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً? [الكهف، 47].
فقد جيء بـ (حشرناهم) ماضياً بعد (نسير) "للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال العظائم، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك" ().
¥