للمؤمنين من ارتداد عن دينهم بالفعل الماضي "وودّوا لو تكفرون" وفي ذلك "إبراز للمفارقة أو البون الشاسع بين ما قد يصدر من المسلمين من مولاة هؤلاء، وما يضمره الكفار لهم من ضغينة وحسد" (). وذلك أن دلالة المضارع تفيد التجدد، في حين أن الماضي "وودّوا لو تكفرون" أفاد التحقق والرسوخ -كما أوضحنا سابقاً- فكأن السياق القرآني يخاطب المسلمين قائلاً لهم: إنه مهما تجددت هذه المودة من قبلكم واستمرت لهؤلاء الكفار سراً أو علانية، فإنها لن تغير ما استقر في قلوبهم ونفوسهم من كراهيتكم ورغبتهم في ارتدادكم عن دينكم الذي تنعمون به دونهم.
ويرد التحول إلى الماضي للدلالة على الاختصاص بوصف ثابت من ذلك قوله تعالى: ?وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ? [الأعراف، 170].
فالتحول في هذا السياق عن الفعل المضارع "يمسكون" إلى الماضي "أقاموا" فيه دلالة على "أن التمسك بالكتاب أمر مستمر في جميع الأزمنة بخلاف إقامة الصلاة فإنها مختصة بأوقاتها" ().
ومعنى هذا أن التعبير بالمضارع قد دلّ على "استمرار استمساكهم بكتاب الله وتجدده، كلما عنّ لهم في حياتهم أمر يهرعون إليه طلباً لهدايته وتطبيقاً لمنهجه، أما الصلاة فإنها لما "كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" عبر عن إقامتها بالفعل الماضي للدلالة على ثباتها، حتى صارت إقامتها على وجهها في وقتها صفة لهم" ().
ومن السياقات القرآنية التي يرد فيها التحول إلى الماضي للدلالة على إظهار الرغبة في حصول الفعل قوله تعالى: ?يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ? [البقرة، 215].
لقد حصل التحول عن المضارع "ينفقون" إلى الماضي "أنفقتم". ولو جرى السياق على مقتضى الظاهر لكان "يسألونك ماذا ينفقون، قل ما تنفقون …" لأن الجواب جاء بأسلوب الشرط، والشرط يقتضي الاستقبال، والنحاة يؤولون فعل الشرط الماضي بالاستقبال (). "ولكن القصد من مجيء الشرط ماضياً وإن كان معناه الاستقبال، هو إنزال غير المتيقن منزلة المتيقن، وغير الواقع منزلة الواقع" ().
يقول ابن جني (): "وكذلك قولهم: (إن قمتَ قمتُ) فيجيء بلفظ الماضي والمعنى معنى المضارع، وذلك أنه أراد الاحتياط للمعنى، فجاء بمعنى المضارع المشكوك في وقوعه بلفظ الماضي المقطوع بكونه، حتى كأن هذا قد وقع واستقر، لا أنه متوقع مترقب".
ومما سبق ذكره يتضح لنا سر التحول إلى الفعل الماضي في الشرط، في قوله تعالى: ?وما أنفقتم? وإن كان مستقبلاً في معناه، وذلك لإظهار الرغبة في حصوله وحثهم على فعله، فكأنه حاصل منهم متقرر، متجاوزاً مسافة الزمن في ذلك ليشد الانتباه إلى حقيقة الحدث نفسه وهو الإنفاق، مشيراً إلى وجوه مصارفه الحقة، ليصرف عن النفس أدنى تردد أو شُحٍّ في الإنفاق والعطاء.
ومنه قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ? [البقرة، 159 - 160].
نزلت هذه الآية في أحبار اليهود () الذين كتموا ما في التوراة من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، ودينه الخاتم، ودلائل صدق نبوته.
وقد حصل التحول في الآية الكريمة عن الفعل المضارع الواقع في جملة الصلة (الذين يكتمون) إلى الماضي الصلة (الذين تابوا)، وما عطف عليه (وأصلحوا)، و (بيّنوا)، ولو جاء السياق على أصله في مقتضى الظاهر لكان (إلا الذين يتوبون ويصلحون، …) فيأتي فعلاً مضارعاً دالاً على الاستقبال ()، لا سيما أن قوله تعالى: ?إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا? يراد به الاستقبال؛ "لأن (يكتمون) فعل مضارع وهذا بعده، فالتوبة بعد الكتمان" ().
¥