والذي يظهر لي -والله أعلم- أن مجيء التحول إلى الفعل الماضي في هذا السياق أفاد الحث على التوبة والحض على الإصلاح والتبيين، فالماضي يدل على تحقق وقوع الفعل وحصوله، وكأنه يخبر عن توبة قد حصلت منهم وإصلاح قد كان، أو هكذا ينبغي أن يكون.
وأما التعبير بالفعل المضارع "يكتمون" فيرى ابن عاشور (): "أنه للدلالة على
أنهم -أي: علماء اليهود- في الحال كاتمون للبيّنات والهدى، ولو وقع بلفظ
الماضي لتوهم السامع أن المعنِيَّ به قوم مضوا، مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين".
ويرى الباحث أن دلالة الفعل "يكتمون" تتجاوز دلالة الحال إلى دلالة الاستمرار، فالكتمان للبينات والهدى حاصل منهم حال نزول القرآن، ويتجدد ذلك منهم ويستمر إلى قيام الساعة، فكتمان الحق صفة فيهم على الدوام.
وإذا كان التحول عن المضارع إلى الماضي في السياقات السابقة قد دل على الرغبة في حصول الحدث وتحققه، فإنه قد يرد في سياقات أخرى ليدل على النقيض وهو الرغبة في الانصراف عن الفعل وتركه، وهذا يدل على أن السياق هو الذي يحدد الدلالة المناسبة للتحول، من ذلك قوله تعالى: ?وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ? [لقمان، 12].
سبقت الإشارة في هذا البحث أن فعل الشرط إذا جاء ماضياً، وحقه أن يأتي مضارعاً كما هو الأصل اللغوي، فإنه يدل على تحقق الحدث وحصوله، وقد يرد ماضياً لأسباب أخرى كالتفاؤل أو لإظهار الرغبة في وقوعه -كما سلف ذكره- "أو للدلالة على حصول الحدث مرة واحدة، في حين أن المضارع قد يفيد تكرار الحدث وتجدده" ().
وكل الدلالات السابقة قد يقبلها الفعل ولكن السياق -كما أسلفنا- هو الذي يحدد الدلالة المناسبة للتحول إلى الماضي، فقد ذكرنا في سياق سابق أن التحول إلى الماضي "أنفقتم" في قوله تعالى: ?قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْن? [البقرة، 215] قد أفاد الرغبة في هذا الإنفاق فأتى به ماضياً وإن كان مستقبلاً في المعنى، في حين دل المضارع السابق له في السياق نفسه "يسألونك ماذا ينفقون" على التجدد والاستمرار في النفقة، فأراد المولى -عزوجل- الرغبة عند المكلفين في تحقق الحدث وحصوله على صورة التجدد والاستمرار، فنكون بذلك قد جمعنا بين أكثر من دلالة في سياق واحد إذا احتملها السياق، وكذلك الحال نفسه في هذه الآية التي نحن بصددها، فيرى فاضل السامرائي أن سر مجيء الفعل (يشكر) بصيغة المضارع، و (كفر) بصيغة الماضي؛
"لأن الشكر يتجدد ويكثر، وليس كذلك الكفر، فإن الكفر يحصل ابتداء ويبقى
صاحبه عليه إلا إذا شاء الله، فالشكر عمل يومي متجدد بخلاف الكفر الذي هو الاعتقاد" ().
ولكن ما ذهب إليه السامرائي في هذا السياق ينقضه ما ورد في سياقات قرآنية أخرى، من ذلك قوله تعالى: ?الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ? [البقرة، 121].
وقوله تعالى: ?وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ? [آل عمران، 19]، وقوله تعالى: ?وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً? [النساء، 136]، ومنه قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ? [آل عمران، 21]، وقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بين اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً? [النساء،150].
ففي السياقات السابقة وغيرها ورد التعبير عن الكفر بصيغة المضارع الذي يدل على التجدد والحدوث، خلافاً لزعمه أن الكفر يرد مرة واحدة ولا يتجدد؛ لذا ورد التعبير عنه في سياق الآية بالماضي.
¥