والحقيقة أن دلالة التحول إلى الماضي ينبغي فهمها من السياق نفسه، وبالمقارنة بالفعل المتحول عنه، مع افتراض بقاء التركيب على أصله ثم النظر إلى البدائل الأسلوبية الحاصلة في السياق وما أضفته من بعد دلالي جديد، فسياق الآية يذكر الشكر بصيغة المضارع (من يشكر) ثم تحول عنه إلى الماضي، بقوله: (ومن كفر)، فالسياق سياق ترغيب وحث على الطاعة والشكر وتنفير من الشرك والكفر، بدليل سياق ?وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ? [لقمان، 12].
وجاء بعدها على التو: ?وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ? [لقمان، 13]، فجاء قوله تعالى: ?وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ? [لقمان، 12]، بين أمر ونهي، فهو مسبوق بأمر بالشكر "أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ"، وملحوق بنهي "لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ"، فالسياق كله أمر بالإيمان والشكر ونهي عن الكفر والشرك. فدل المضارع في الحالة هذه على التجدد والاستمرار للحث على تجدد الشكر واستمراره، ومحاولة الوصول فيه إلى مرتبة من الكمال والتمام، ثم تحول عن ذلك في التعبير عن الكفر بالماضي "ومن كفر"، تغييباً لحدث الكفر، وعدم التوقف عنده رغبة للانصراف عنه والترك.
قال الرازي (ت 606هـ) (): "وفي هذه الآية قال في الشكر (ومن يشكر) بصيغة المستقبل، وفي الكفران "ومن كفر فإن الله غني حميد"، وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد، كقول القائل: من دخل داري فهو حر، ومن يدخل داري فهو حر ()، فنقول: فيه إشارة إلى معنى، وإرشاد إلى أمر، وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر النعمة، فمن شكر ينبغي أن يكرر، والكفر ينبغي أن ينقطع، فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران".
الصورة الثالثة: التحول عن الماضي إلى الأمر:
ويمثل الفعل الماضي في هذه الحالة (جملة خبرية) في حين يمثل فعل الأمر جملة (إنشائية طلبية)، "والتحول عن الأسلوب الخبري إلى الأسلوب الإنشائي يهدف إلى تحقيق أغراض بلاغية تتوزع على الوظيفة الانفعالية (المتكلم) والوظيفة الافهامية (المتلقي) كدلالة الرضا بالواقع الصياغي حتى كأنه مطلوب تحقيقه في الواقع بالفعل" ().
من ذلك قوله تعالى: ?قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ? [الأعراف: 29].
حصل التحول في هذا السياق عن الماضي إلى الأمر (وأقيموا) "ولو جاء السياق على أسلوب واحد، لقال: (أمر ربي بالقسط وأمركم أن تقيموا وجوهكم) " ().
فالمستوى السطحي ():
أمر ? ? أقيموا
ماضٍ ? ? أمر
والمستوى العميق:
أمر (أمر) بإقامة
ماضٍ ماضٍ
وندرك سر هذا التحول من ارتباط هذه الآية بما قبلها، إذ هي رد على مقولة الكفار التي ذكرها المولى عزوجل بقوله: ?وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ? [الأعراف: 28].
وجاء الحديث عن الأمر بالقسط بأسلوب خبري، وإن كان متضمناً معنى الإنشاء (أمر ربي بالقسط) إذ معنى ذلك (أقسطوا) ولكنه جاء بأسلوب خبري ولم يأتِ أمراً مباشراً.
فلم يقل: "قل أقسطوا وأقيموا" وذلك للدلالة على أمرين:
الأول: أن فعل الماضي في (أمر ربي بالقسط) يدل على تحقق ذلك الأمر وحصوله، فهو "مبدأ موغل في القدم، به قام ميزان السموات والأرض، ولذلك أسند الفعل الماضي إلى الذات العلية (ربي)، ليعمق الإحساس بالقدم والتمام، لأن الأمر صدر عن الذات الأزلية" ().
¥