تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والثاني: أن القسط هو ما أمر الله به وشرَعَه، سواء التزموا به أم لم يلتزموا، فلا يغير ذك من أمره شيئاً، فهو أمر أزلي استقام عليه أمر الكون والحياة، ولو قال: "أقسطوا" لكان الأمر موجهاً إليهم على وجه الخصوص، ولم يفد تحققه في الزمن الماضي واستمراره في الحاضر والمستقبل، فالفعل (أمر) فعل سلب منه الزمن، فهو دال على الأمر بالقسط مطلقاً، ثم تحول إلى الأمر (وأقيموا) للدلالة على أنه ما دام أمر الله بالقسط أمراً أزلياً كوناً وشرعاً، فحقكم أن تنفعلوا لأمره الكوني، ومراده الشرعي، فتحققوا معنى القسط في حياتكم بإقامة وجوهكم للصلاة له عند كل مسجد.

وفي هذا السياق تتوافق البنية العميقة مع البنية السطحية "فالمحافظة على تنفيذ الأمر بالصلاة في الحاضر والمستقبل (كما هي دلالة الأمر) تؤدي إلى التمسك بإقرار مبدأ التحول، سواء في التعامل مع المنعم الأعلى عزوجل؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، أو في التعامل مع الناس، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر" ().

لذا كان التحول إلى الأمر ليدل على طلب الفعل على سبيل الوجوب ويحمل في طياته الزمن الحاضر والمستقبل، وأفاد المتلقين "العناية بتوكيده في نفوسهم، فإن الصلاة من أوكد فرائض الله على عباده" ().

ومن دلالات هذا التحول الدلالة على سرعة تحقق الحدث وحصوله. من ذلك قوله تعالى مخاطباً بني إسرائيل: ?وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ* فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ? [البقرة: 65 - 66].

نجد السياق كله يدل على أن الأحداث الواردة فيه قد حصلت في الزمن الماضي، بقرائن لفظية: (ولقد علمتم، اعتدوا، فجعلناهم، فقلنا، فجعلنا)، فالزمن المسيطر على السياق هو زمن الماضي، ولكن السياق تحول عن الفعل الماضي إلى الأمر بقوله: "كونوا قردة"؛ لأن في الأمر "كونوا" شداً للانتباه بالتحول الحاصل في السياق؛ مما جعل الأمر مركزاً على بؤرة الحدث الهامة وهي تحول ذواتهم إلى قردة خاسئين، وفيه دلالة على سرعة تحقق الحدث وحصوله مستمداً ذلك من قدرة الآمر عزوجل- القائل للأشياء: ?إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ? [يس: 82]، وكأن المولى -عزوجل- قد أمر الحدث نفسه أن يكون فكان، فإذا بذواتهم قد انفعلت لهذا الأمر الإلهي على وجه السرعة فانمحت معالم البشرية والإنسانية منهم ليصبحوا مسخاً حقيقياً حاصلاً فيهم، ففي الأمر دلالة على قوة إيقاع الحدث وتحققه لا تكون في الماضي في ما لو كان السياق على نحو "فجعلناهم قردة خاسئين"؛ لأن الأمر يدل على شدة غضب الجبار عليهم، وصدور الأمر منه على وجه السرعة والقوة والجبروت.

وهذا السياق سياق تحول وتغيير، فكما حصل تحول في أشكالهم وذواتهم رافق ذلك تحول في التعبير عن ذلك الحدث، فوافق تحولَ المبنى تحولٌ في المعنى.

قال أبو حيان (ت 745هـ) (): "فقلنا لهم "كونوا" أمر من الكون، وليس بأمر حقيقة؛ لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم؛ لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم قردة بل المراد منه سرعة الكون على هذا الوصف، كقوله تعالى: ?إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ? [يس: 82]. ومجازه أنه لما أراد منهم ذلك صاروا كذلك".

وقد يرد التحول إلى الأمر للدلالة على كيفية وقوع الحدث، كما في قوله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ? [البقرة: 243].

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير