تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يخبر السياق عن حدث مضى، وكان يقتضي أن يكون "فأماتهم الله ثم أحياهم"، ولكنه تحول عن الماضي إلى الأمر "موتوا"، للدلالة على أن الحدث قد وقع بسرعة وقوة شملت جميع المخاطبين فلم يتخلف عنه أحد، وأن الموت قد تلبسهم جميعاً في لحظة واحدة، ولو قال: "فأماتهم" لما كان في الماضي دلالة على ذلك، ولكان المعنى أنهم قد ماتوا فحسب، يقول الزمخشري (ت 538هـ) (): "فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم"، فإن قلت: ما معنى قوله: فقال لهم موتوا قلت: معناه فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالاً من غير إباء ولا توقف كقوله تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون".

ثم مثَّل الفعل الماضي "فأحياهم" تحولاً عن الأمر إلى الماضي، لدلالة توحي بأن القدرة الإلهية هي التي أحيت كما أماتت، إذ ليس بمقدور الأموات أن يكونوا أهلاً للخطاب وتوجيه الأمر إليهم فيما لو قال ثم (احيوا) وفيه إشارة إلى مطل الزمن مع التراخي الذي يشي به الحرف (ثم) مع فعل الإحياء، حتى يشاهد بعضهم بعضاً لحظة الإحياء فيكون ذلك أشد وقعاً على النفس وأثراً.

ويرد التحول عن الماضي الذي يمثل جملة خبرية إلى فعل الأمر الذي يمثل جملة إنشائية بقصد التفريق بين مضمونهما، منه قوله تعالى: ?وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ? [الحج: 30].

حقق التحول عن الماضي (أُحِلَّتْ) الذي هو جملة خبرية إلى الأمر (فاجتنبوا الرجس …) الذي يمثل جملة إنشائية طلبية دالة التفريق بين الخبر والإنشاء، فالخبر بصيغة الماضي في قوله تعالى: "وأحلت لكم بهيمة الأنعام" يشير إلى تحقق حصول الحل وتلبسهم به منذ زمن، وفي ذلك مزيد فضل عليهم وامتنان، ثم استثنى مما أحله من الأنعام ما يتلى عليهم فأتى بصيغة المضارع، وحقه أن يأتي بالماضي لمطابقة السياق فيكون "إلا ما تلي عليكم". فأفاد المضارع هنا الاحتراز؛ أي: ما يتلى عليكم من المحرمات في هذه الآيات وما سيعقبها من محرمات لاحقة لا ما قد ذكر في آيات سابقة فحسب، ثم تحول عن الإخبار إلى الإنشاء والطلب فقال: "فاجتنوا الرجس من الأوثان"، وفي التحول عن الإخبار إلى الإنشاء، وهما أسلوبان مختلفان من أساليب العربية إشارة إلى اختلاف مضمونها مبنىً ومعنىً، فالحلال يختلف تماماً عن الحرام وبينهما بون شاسع، لذلك حسن مجي الأمر بالاجتناب ليكون هذا التحول في الأسلوب لافتاً للنظر إلى الاختلاف بينهما، وأن الرجس من الأوثان وقول الزور لا يدخلان في الحلال.

ولو جاء السياق على نسق واحد من الإخبار، فقال: "وأحلت لكم بهيمة الأنعام وحرم عليكم الرجس من الأوثان وقول الزور"، لما كان فيه من الدلالة المذكورة في المفارقة ما في هذا التعبير.

وازداد الانفتاح الدلالي بإيجاد العلاقة السببية بين الأسلوبين، فكأن السياق القرآني يشير أيضاً إلى أن امتثال أوامر الله -عزوجل- هي سبب في حفظ ما أحله الله، وسبب في بقاء نعمته على العبد، فبينهما علاقة السببية من وجه والمفارقة من وجه آخر.

الصورة الرابعة: التحول عن المضارع إلى الأمر

ويتحول عن المضارع إلى الأمر للدلالة على اختلاف الفعلين، نحو قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام وقومه: ?قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ? [هود: 53 - 54]. فأتى بالفعل المضارع ابتداء فقال: "أُشْهِدُ الله" ثم تحول عنه إلى فعل الأمر عند مخاطبة قومه فقال: (واشهدوا)، ولم يقل: "وأُشْهِدُكم" فخالف في المطابقة بين الأفعال، على نحو من التباين بين البنية السطحية والعميقة، على النحو التالي:

المستوى السطحي:

أُشْهِدُ ? اشهدوا

مضارع ? أمر

المستوى العميق:

أُشْهِدُ ? أُشْهِدُكُم

مضارع ? مضارع

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير