وهذا من أسرار السلطان الذي يكون للقرآن على النفوس؛ لأن الأنفس متنوعة، بل النفس الواحدة لها مشارب، فالنفس تارة يأتيها الترغيب وتارة يأتيها الترهيب، وتارة تتأثر بالمثل، وتارة تتأثر بالقصة، تارة هي ملزمة بالعمل، تارة هي ملزمة بالاعتقاد، فتكرُّر هذا وراء هذا تُغْدِقُ على النفس البشرية أنواعا مما تتأثر به، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من كلام من خلق هذه النفس البشرية " أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " [الملك:14]، ?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ? [الإسراء:9].
أيضا تجد أن القرآن خُوطب به من عنده فن الشعر وما يسميه بعض الناس موسيقى الكلام؛ فهذا النوع من الناس تجد في القرآن ما يجبره على أن يستسلم له.
لما قيل للَبيد بن رَبيعة صاحب المعلقة وصاحب الديوان: ألا تنشدنا من قصائدك؟ قال أغناني عن الشعر وتذوقه -أو كما قال- سورتا البقرة وآل عمران. لأن له تذوق في هذا الفن بخصوصه، فيأتي القرآن فيجعل سلطانه على النفس فيقصره قصرا، لهذا قال جل وعلا " وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" [فصلت:41 - 42]، وقال سبحانه " وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ" [فصلت:44].
سادسا: أن القرآن فيه الفصل في الأمور الغيبية، فثم أشياء في القرآن أُنزلت على محمد عليه الصلاة والسلام لم يظهر وجه بيانها وحجَّتها في كمال أطرها إلا في العصر الحاضر، وهو ما اعتنى به طائفة من الناس وسموه الإعجاز العلمي في القرآن، والإعجاز العلمي في القرآن حقّ؛ لكن له مواضع، توسّع فيه بعضهم فخرجوا به عن المقصود فجعلوا آيات القرآن خاضعة للنظريات، وهذا باطل؛ بل النظريات خاضعة للقرآن؛ لأن القرآن حق من عند الله والنظريات من صنع البشر، لكن بالفهم الصحيح للقرآن، فثَم أشياء من الإعجاز العلمي حق لم يكن يعلمها الصحابة رضوان الله عليهم على كمال معناها وإنما علموا أصل المعنى، فظهرت في العصر الحاضر في أصول من الإعجاز العلمي.
الإعجاز الاقتصادي، الإعجاز التشريعي، الإعجاز العَقدي، أشياء تكلم عنها الناس في هذا العصر -لانطيل في بيانها- وكل واحدة منها دالّة على أن هذا القرآن من عند الله جل وعلا "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" [النساء:82].
سابعا وأخيرا: أنّ القرآن من صفاته أنّ الإنسان المؤمن كلما ازداد من القرآن ازداد حبا في الله جل وعلا، وهذا راجع إلى الإيمان، وراجع إلى أن القرآن فيه الهدى والشفاء للقلوب، فالأوامر والنواهي والأخبار التي في القرآن هي هدى وشفاء لما في القلوب، كما قال سبحانه " قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ " [فصلت:44]، وهذا سلطان خاص على الذين آمنوا في أنه يهديهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور في المسائل العلمية وفي المسائل العملية، ولهذا لا تأتي فتنة ولا شبهة إلا وعند المؤمن البصيرة بما في هذا القرآن " إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ " [الإسراء:9] وهذه لا يُلقاها إلا أهل الإيمان " قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ "
[فصلت:44]، " وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا " [الإسراء:82]، وهو سلطان خاص يزيد المؤمن إيمانا، لهذا إذا تليت على المؤمن آيات الله جل وعلا زادتهم إيمانا لما فيه من السلطان على النفوس.
بهذا يتبيّن لك ما ظهر من أقوال أهل العلم في هذه المسألة العظيمة التي تجدها متفرقة في كتب كثيرة في البلاغة، وفي الدراسات في إعجاز القرآن، وفي التفسير، وفي كتب متنوعة.
وما أجمل قول الطحاوي رحمه الله تعالى رحمة واسعة (أَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ، وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ.) وهذا هو الحق فالقرآن بصورته وهيئته وصفته لا يمكن أن يشبه قول البشر، حتى في ربطه وتنوع آياته وسوره؛ بل لا يشبه قول البشر.
أسال الله جل وعلا أن يغرس الإيمان في قلوبنا غرسا عظيما، وأن يجعلنا من أوليائه الصالحين، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا.
وأسأله سبحانه أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى.
كما أسأله سبحانه أن ينور قلوبنا بالقرآن وأن يجعلنا من أوليائه إنه سبحانه جواد كريم.
وصلى والله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين.
شرح الطحاوية للشيخ / صالح آل الشيخ
(1/ 202ـ 216)
ـ[عمرو الشرقاوي]ــــــــ[13 Jun 2010, 01:34 م]ـ
تنبيهات:
1ـ هناك شريط للشيخ بعنوان (إعجاز القرآن) وهو مفرغ علي
مكتبة الشيخ الإلكترونية.
2ـ يوجد بحث مفيد للدكتور / محمد بن عبد العزيز العواجي
(رسالة ماجستير) بعنوان: إعجاز القرآن الكريم عند شيخ الإسلام
ابن تيمية مع المقارنة بكتاب إعجاز القرآن للباقلاني والكتاب من
منشورات دار المنهاج بالرياض.
¥