[ذو القرنين .. وعمارة الأرض .. وقفات]
ـ[عمر جمال النشيواتي]ــــــــ[17 Jun 2010, 06:10 م]ـ
ذو القرنين ... وعمارة الأرض ...
تبقى نظرتنا إلى كتاب الله تعالى , نظرة ناقصة جزئية .. ,حتى يدخل توجيه القرآن في كل جزئية من حياتنا , وفي كل ميدان و فن , نستلهم منه توجيه هداية وتنوير , نعرف من خلاله حكم ذلك الأمر, وموقفنا منه, وأخلاقنا فيه وكيف نتعامل معه ومن خلاله, ويرسم لنا القرانُ فيه قواعد عامة, وضوابط وكليات جامعة شاملة , ومبادئ رفيعة عالية.
ولك أن تتصور إلى أي المستويات سنرتفع , وأي درجة سنبلغ , إذا توقفنا عند كل خطوة هامة مصيرية في حياتنا , لا نتجاوزها حتى نستهدي بهدي القرآن ,ونستضيء بنوره , ليس في معرفة الحكم فحسب –كما هو غاية مطلب الكثير منا – بل إلى تلمس أسرار أخرى في المقدار الذي يحل علينا ويحرم, وإلى توجيه نفسي , وإيحاء شعوري, و ما هو موقف الأفضلية؟ , وما هو الأكمل والأرقى؟ ... لو فعلنا ذلك لبلغنا في العبودية ومراتب الكمال والتوفيق شأوا عاليا ..
وتمثيلا لذلك وتوضيحا له سنقف وقفات مختصرة مع قصة " ذي القرنين "-الاسكندر المقدوني الكبير - وهي قصة ذُكرت في سورة الكهف التي استحب الشارع لنا أن نتلوها في كل يوم جمعة , ليرسخ هذا المثال في نفوسنا فنحذو حذوه , و قصص القرآن هي صورة حية مرئية يراد منها أن ترتسم في الخيال وتنطبع في النفس , وأن تبقى مثالاً حياً فاعلاً في حياة من اتخذها مثالاً أعلى , ولا شك أن ذي القرنين محل ثناءِ اللهِ تعالى , جعله الله مثالاً و أنموذجاً لنا بكل تفاصيل قصته التي أوردها في كتابه .. وإلا لنبّه على أخطائه وعلق عليها ونقدها, ولو بإشارة أو إيحاءٍ كما هي عادة القرآن.
قال القاسمي رحمه الله:"ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار , وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب تجلت في سياق تلك الوقائع, ولذا يجب صرف العناية إلى وجوه تلك الفوائد والثمرات , وما يستنبط من تلك الآيات .. "
الوقفة الأولى: قال الله عن ذي القرنين " حتى إذا بلغ مغرب الشمس" ثم قال عنه"حتى اذا بلغ مطلع الشمس" ثم قال:"حتى إذا بلغ بين السدين" ... سعى ذو القرنين وجدّ واجتهد حتى بلغ حيث انتهت طاقته و قدرته , ولم يرض بمنزلةٍ دون منزلة أحد من أهل زمانه , ولم يقف عند حد , بل سعى في الأرض حتى بلغ مغرب الشمس ثم سار بجيوشه حتى بلغ مشرقها ثم أتبع سببا حتى بلغ بين السدين , وتملّك تلك المناطق كلها حتى حكم فيها, وأثّر بفكره ومبادئه على أهلها وسيطر عليها وغدا شرطياً أعلى للعالم وحارساً لأهل الأرض , وملجأ للمظلومين , ومأمنا للخائفين ... عندها طابت نفسه وتحقق حلمه ... همة متفجرة وطموح يناطح السحاب ...
بهذا يبني ذو القرنين في نفوسنا طموحاً عالياً وهمةً شامخة , ويرسم لنا صورة مشرقة في سماء التفوق والجد والعزم ... والتنافس والتصارع من أجل السيادة والغلبة والوصول إلى مفاصل التغيير والتأثير وهي صورة المؤمن القوي ... ويحطم في المقابل صور الهزيمة والخمول والكسل ... التي تعشعش في نفوس كتير ممن ضعفت همتهم وخارت عزائمهم ...
قال القاسمي رحمه الله:"ومن فوائد نبأ ذي القرنين: تنشيط الهمم لرفع العوائق , وأنه ما تيسرت الأسباب , فلا ينبغي أن يُعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر , عذراً في الخمول والرضا بالدون , بل ينبغي أن ينشط ويمثُل في مرارته حلاوةَ عقباه من الراحة والهناء , كما قضى الاسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار , إذ لم يكن من الذين تُقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون "
وفي زماننا نلحظ زهداً واضحاً وتكاسلا وضعفا من أبناء أمتنا في بناء الدنيا وعمارتها , بل يُتهم عالي الهمة فيها بأنه يلهث وراء الدنيا وأنه باع آخرته بدنياه , وبهذا رضينا لأنفسنا الهوان وذلت أمتنا حين مدت يدها إلى عدوها لتأكل وتشرب وتعيش , وازدادت مع بُعدها عن دينها وكتاب ربها ظلمة على ظلمة , وتأخر بهذا قطار أمتنا وتجاهَلَنا العالم وغَدونا لا نُهاب ولا يُعبأ بنا ...
¥