تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بين متين العلم ومُلَح التفسير

ـ[أحمد كوري]ــــــــ[17 Jun 2010, 11:11 ص]ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين

بين متين العلم ومُلَح التفسير

جدت في عصرنا مصادر جديدة للتفسير، منها الإعجاز العلمي والعددي، ولا يزال الباحثون في الدراسات القرآنية مختلفين في اعتماد هذه المصادر، فبعضهم يعتمدها – وهم الجمهور – وبعضهم يرفضها.

وجميع هذه الأنواع تعود في الحقيقة إلى دلالة الإشارة، ودلالة الإشارة عند الأصوليين هي: دلالة اللفظ على معنى لا تتوقف صحة الكلام عليه، ولم يقصده المتكلم، مثل قوله تعالى: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم"، فمنطوقها الصريح يدل على جواز جماع الصائمين لنسائهم في جميع أجزاء الليل، وتدل هذه الآية أيضا عن طريق الإشارة على صحة صوم من أصبح جنبا؛ لأن ذلك لازم على إباحة الجماع في جميع أجزاء الليل، ومنها آخر جزء منه، ويلزم على ذلك أن يصبح المجامع جنبا. ومن أمثلة دلالة الإشارة أيضا قوله تعالى: "وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون"؛ فقد استدل بعض الفقهاء بهذه الآية على أن الولد لا يُمْلَك؛ لأن الله تعالى وصف الملائكة بأنهم عباده ردا على الكفار في زعمهم أنهم أبناؤه، تعالى الله عن ذلك، ويلزم من ذلك أن العبودية والولدية لا يجتمعان.

ومن أمثلة ذلك من الإعجاز العلمي قوله تعالى: "غلبت الروم في أدنى الأرض"؛ فالآية أصلا ليست مسوقة لتقرير حقيقة علمية، وإنما هي مسوقة للإخبار عن أمر مستقبلي هو انتصار الروم على الفرس وهذا ما يفهمه العرب الأميون منها إذا سمعوها، لكن العلم الحديث استكشف أيضا أنها تدل على حقيقة علمية.

وليس الخلاف في دلالة الإشارة جديدا؛ فقد اختلف القدماء في اعتبارها؛ وخصص الإمام الشاطبي في كتابه "الموافقات" بحثا مطولا لهذا الموضوع، ذكر فيه حجج من يقول بها وحجج من يمنعها، وأطال في ذلك، وإن كان في الأخير قد رجح جانب من يمنع اعتمادها في مجال استنباط الأحكام الشرعية (انظر "الموافقات" للشاطبي، ط. عبد الله دراز: 2/ 79 – 103).

لكن ألا يمكن لهؤلاء وهؤلاء أن يجتمعوا في هذه المسألة على كلمة سواء؟

ربما نجد حلا لهذا الخلاف عند الإمام ابن عطية؛ فهو يميز بين نوعين من مصادر التفسير، هما: متين العلم ومُلَح التفسير، كما يقول في تفسير البسملة، من تفسيره "المحرر الوجيز":

"والبسملة تسعة عشر حرفا؛ فقال بعض الناس إن رواية بلغتهم أن ملائكة النار الذين قال الله فيهم: "عليها تسعة عشر" إنما ترتب عددهم على حروف "بسم الله الرحمن الرحيم" لكل حرف ملك، وهم يقولون في كل أفعالهم: "بسم الله الرحمن الرحيم" فمن هنالك هي قوتهم، وباسم الله استضلعوا. قال القاضي أبو محمد عبد الحق - رضي الله عنه -: وهذه من مُلَح التفسير وليست من متين العلم، وهي نظير قولهم في ليلة القدر إنها ليلة سبع وعشرين مراعاة للفظة "هي" في كلمات سورة "إنا أنزلناه ونظير قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل: "ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فإنها بضعة وثلاثون حرفا قالوا: "فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول".

فالإمام ابن عطية هنا ينزل كل واحد من النوعين منزلته بلا إفراط ولا تفريط؛ فهو لا ينكر مُلَح التفسير، لكنه أيضا لا يرفعها إلى درجة متين العلم.

فمتين العلم هو استنباط التفسير من القرآن العظيم عن طريق مصادر التفسير المعروفة التي حددها علماء التفسير، ومنها: القرآن والسنة والإجماع وعلوم اللغة، أما مُلَح التفسير فهي استنباط اللطائف والنكت من القرآن، عن طريق التفسير الإشاري، ومنه الإعجاز العلمي والعددي، ونحوها.

ولكل من النوعين مجاله؛ فمجال متين العلم هو الأحكام العقدية والفقهية. أما مُلَح التفسير فهي لا تستخدم في استنباط هذين النوعين، وإن صح الاعتماد عليها في مجالات أخرى، فحكمها حكم الرؤيا والفراسة والتوسم والأحاديث الضعيفة التي يصح الاستدلال بها في مجال المستحبات والترغيب والترهيب بشروط، عند جمهور العلماء.

ومن المجالات التي يصح أن نعتمد فيها على مُلَح التفسير:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير