يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ
ـ[أبو سعد الغامدي]ــــــــ[15 Jun 2010, 12:33 ص]ـ
أيها الأفاضل
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا شك أن القرآن الكريم كتاب لا تنقضي عجائبه والناس يتفاوتون في إدراك فوائد هذا القرآن وعجائبه ومن عجائب ما وقفت عليه كلام للحكيم الترمذي حول قول الله تعالى مخبرا عن يعقوب عليه السلام: " يا أسفى على يوسف".
وأتمنى على الإخوة الكرام تأمل كلام الحكيم الترمذي ومن ثم التكرم بآرائهم حول مدى صحة ما ذكره الحكيم الترمذي وأرجو أن يستند في ذلك إلى آيات القرآن وصحيح الحديث وأقوال أهل التفسير وغيرهم من أهل العلم.
وشكر الله لكم مقدما وإليكم الموضوع:
قال الحكيم الترمذي في كتابه المنهيات:
"حدثنا أبى، حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري، حدثنا صلاح بن وقاد الأنصاري، عن سعد بن طريف، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن داود عليه السلام قال لابنه: يا بنى، أين موضع الرأفة منك؟ وأين موضع الرحمة؟ قال: موضع الرأفة الطحال، وأما موضع الرحمة فالكبد.
فهذه الرأفة إذا هاجت فلها لهبان، وإذا طار اللهب إلى الصدر اخترق ظاهر القلب ووجهه، فصار كاللسان المخترق بالشيء الحار، فصارت على القلوب كحزونة الأرض، واشتقاق الحزن من ذلك؛ فكان يعقوب عليه السلام حين قال: (يا أسفى) دعا الأصل الذي من معدن الرأفة، فقال: (يا أسفى) .. إنما هو ذلك اللهبان الذي كان يلتهب من الرأفة لفراق يوسف عليه السلام لطول الغيبة، ولم يكن قد وجد خبر موته فيحتسبه عند الله، فيطمئن إلى وصوله إلى الله.
وأنبياء الله أكثر الخلق رأفة، وأوفرهم حظا منها، وأرحم البرية؛ فكانت الرأفة تلتهب فيه، فلما بلغ التلهب و التلظي مبالغة دعاة كالمستروح إليه وقال: (يَا أَسفَى عَلَى يُوسُف). والأسف مما يدل على الشدة من الحزن والغضب جميعا؛ لأن الغضب له حريق .. ألا ترى إلى قوله تعالى: (فَلَمّا آَسَفُونَا اِنتَقَمنا مِنهُم)، يخبر أنه: لما اشتد غضبى عليهم تلهب فطار اللهب فحلت النقمة بفرعون وقومه.
فإنما نادى يوسف عليه السلام ذلك الأسف عند اشتداد حريق الرأفة .. ألا ترى أنه لما نادى الأسف نداء الندبة بهذه الياء - حكى الله عند ندائه: (وَابيَضَت عَيناهُ مِنَ الحُزنِ فَهُو كَظيم). وذلك أنه لما هاج اللهب منه لم يقل منه: (يا يوسفاه)؛ لأنه وجد يوسف عليه السلام مرتهنا بحكم الله بشيء قد سلف من يعقوب عليه السلام مستورا عن الخلق، ثم صار ظاهرا .. حدثنا عبد الله بن أبى زياد، حدثنا عبد الله بن أبى سميط ابن عجلان، قال: سمعت أبى يقول: بلغنا أن يعقوب عليه السلام قال له ربه: أتشكوني؟! فوعزتي لا أكشف ما بك حتى تدعوني. فقال عند ذلك: (إِنّما أَشكُو بثي وحزني إِلَى الله)، فقال له جبريل عليه السلام: الله أعلم بما تشكو يا يعقوب. وإنما قال ذلك من قبل لما قيل له: ما الذي أذهب بصرك؟ قال: حزني على يوسف، فقيل: فما الذي قوس ظهرك؟ قال: حزني على أخيه. فأوحى الله تعالى إليه: أتشكوني؟! فوعزتي لا أكشف ما بك حتى تدعوني. فقال عند ذلك: (إِنّما أَشكو بثي وحزني إِلى الله)؛ فأوحى الله إليه: وعزتي لو كانا ميتين لأحييتهما لك حتى تنظر إليهما، وإنما وجدت عليكم أنكم ذبحتم شاة، فقام عليكم مسكين، فلم تطعموه منها شيئاً، فأن أحب خلقي الأنبياء، ثم المساكين، فاصنع طعاما وادع عملة المساكين. فصنع طعاما، ثم قال: من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب. وقوله:) عملة المساكين (أي صوامهم وعبادهم. وكانت مساكين بنى إسرائيل بهذه الصفة لمسكنة العباد، وسائرهم فقراء.
فهذا فعل كان قد بدر من يعقوب عليه السلام، وهو لا يستغربه؛ فجعله الله لبلائه، وجعل البلاء سببا لاستخراج صبره، وامتحان قلبه.
وإن ربنا كريم إذا أراد أن يبتلى عبده لاستخراج ما في ضميره وإبرازه لأهل سمائه وأرضه استحيا أن يبتليه من غير علة أو سبب؛ فيكون ذلك كالارتجاع في العطية .. ألا ترى إلى قوله: (وَما بِكُم مِن نِعمَةٍ فَمِنَ الله)، ثم قال: (ذَلِكَ بِأَنّ الله لَم يَكُ مُغِيراً نِعمَةً أَنعَمَها عَلَى قَومٍ حَتى يُغيرُوا ما بِأَنفُسِهِم). وإذا أراد الله أن يبتلى عبدا ليبرز صبره الجميل الذي تولى وصفه بنفسه منه من الله تعالى أعطاه من العافية والرجاء والنعمة، فجعل على مقدمة البلاء سببا كالعلة، مثل ما فعل يعقوب عليه السلام، وكذلك روى في قصة
¥