أيوب عليه السلام؛ ليظهر صبره وشرفه على الخلق، وتكون الخلق به مقتدين، قال: وبلغنا أنه كان على مقدمة البلاء أنه كان عند فرعون يوم دخل عليه موسى عليه السلام، وكان أيوب عليه السلام عن نصرته، وكانت منه كلمة أو كلمتان كالمدارى، فكان هذا موجده في الستر على أيوب، فجعله سببا لبلائه؛ فابتلاه وجعل البلاء سببا لإبراز صبره، والثناء عليه، والاحتجاج بفعله على الخلق.
وكذلك في شأن إبراهيم عليه السلام؛ حيث كسر الأصنام، ثم قيل له: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا. فابتلي بالحريق، ثم جعلها عليه بردا وسلاما، وأبرز صبره وبذل نفسه لله في العالمين. وقال في شأن خروجه إلى الصيد: إني سقيم. فابتلى بذبح ابنه، ثم خلصه وفداه بذبح عظيم، وقال في شأن سارة حيث مر بها على الملك فقال: هي أختي. فابتلى بفراق إسماعيل وهاجر.
وكذلك في شأن موسى عليه السلام، ومثل هذا كثير. فوجد يعقوب يوسف عليهما السلام مر تهنا بما سلف متعلقا بحكم الله بحق الله، فلم يستجز أن يناديه نداء النادبين، وهاج منه الشوق إليه والحنين من النفس لحبه إياه، ومعاذ الله أن يتوهم على يعقوب عليه السلام أن حبه كان مذموما شهوانيا، وإنما أحبه من بين ولده لحب الله فيه .. أفليس قد ظهرت الحبية فبرز على جميع إخوته: علماً، وحلماً، وكرماً، وصحفاً، وبراً، وتقوى، وعبودية، وبذلاً، وسخاء، وجمالا في معالي الأخلاق.
وكذلك وجدنا فاطمة رضي الله عنها، فحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها لحبية الله فيها من بين ولده.
وكذلك نجد أولاد الأنبياء لهم تفاوت ولهم أثرة، فإذا تلك الأثرة ليست من الآباء من قبل نفوسهم الميالة بالهوى والشهوة، وإنما ذلك بقلوب طاهرة، وأفئدة زكية، وصدور عالمة بتلك الأشياء؛ فتميل قلوبهم إلى بعض أولادهم دون بعض من أجل حظ لهذا الولد عند الله ما ليس لغيره ..
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما ذكر أولاد خديجة رضي الله عنها، فقالت: يا رسول الله، أين أطفالي منك؟ قال:: (في الجنة). فهل ذكر غير هذا شيئاً؟ وقال عليه السلام عند ذكر إبراهيم عليه السلام: (لو عاش إبراهيم بعدى لكان صديقاً نبياً)، يعلمك بأنه محظوظ عند الله تعالى حظ الصديقين، وحظ النبيين، ولم يرزقه من الأجل في الدنيا ما يظهر عليه الصديقية والنبوة قلباً وجوارح. وحظه هناك في الآخرة قائم حظ صديق نبي، ولو عاش لظهر عليه هذا.
فلما استحكم البلاء على يعقوب عليه السلام، وطال الأمر، وعملت الرأفة، وغلبت مرافق الشوق، وتلهبت الرأفة؛ فلم يستجز أن يناديه وهو متعلق بحق الله الذي قد وجب على يعقوب بسبب ذلك المسكين. وهو ينتظر ماذا يبرز له من الغيب في هذا الحكم، ويحسن ظنه بالله ولا ييأس من روح الله؛ لأنه متوقع من كرم الله؛ فنادى الأسف الذي عليه أسف. فلما ناداه صار ذلك اللهب إلى الرأس كالمحبب له، فذهب ببصره، قال الله تعالى: (وَابيَضَت عَينَاهُ مِنَ الحُزنِ فَهُوَ كَظَيم). فإنما كظم عن نداء يوسف، وكن عنه، فنادى أسفه؛ فحمد الله له وذكر كظمه أنه واقف عند حكمي، معظم لأمري، ومن تعظيمه ووقوفه عند حكمي لم يذكر اسم من اشتاق إليه وحنت نفسه، فنادى الأسف. فلولا أن ذلك الأسف زينة لبلائه، وحلية لمصابه، ما كان ليناديه، ولا ليذكر في التنزيل شأنه.
فهؤلاء الأنبياء والرسل عليهم السلام يضعون كل شيء موضعه كما وصف الله تعالى، فيقدرون عليه بما قواهم الله تعالى من النبوة.
كذلك روى لنا سليمان عليه السلام: أنه حزن على ابنه حزنا شديدا حتى عزى بأن يمثل ملك فجاءه متخاصما مع آخر، فقال: إن هذا مشى في زرعي واتخذ طريقا. فقال له سليمان عليه السلام: ما حملك على ذلك؟ فقال: لأنه زرع في طريق الناس وممرهم. ففطن سليمان عليه السلام بأنه أريد بذلك فتعزى.
وكذلك روى عن موسى عليه السلام؛ حيث بكى على هارون عليهما السلام، فقال الله تعالى: يا موسى ما هذا؟
ما كان ينبغي لك أن تحن على فقد شيء معي، ولا أن تستأنس بغيري، ولا أن يكون بكاؤك على هارون إلا لي.
وفي هذا كلام كثير تركناه لئلا يطول ..
فالأقوياء هذا فعلهم، يعظمون أمر الله، فإذا أبكاهم بكوا، وإذا أحزنهم حزنوا، وإذا خوفهم خافوا، وإذا أضحكهم ضحكوا، وإذا بشرهم فرحوا، وإذا بسطهم انبسطوا.
والضعفاء من خوف خيانة النفوس، إذا أبكاهم دافعوا البكاء، وإذا أحزنهم فزعوا وردوا ذلك إلى أمور السرور، وإذا خوفهم تحيروا، وإذا أضحكهم اتهموا وحسبوها استدراجا ومكرا، وإذا بشرهم نسبوا ذلك إلى الوسوسة، وإذا بسطهم انقبضوا وحسبوه خذلانا. فهذا كله لانسداد الطريق فيما بينهم وبين الله، والحجب التي تحجب النفس مدلاة على عيني الفؤاد والصدور منهم لفوزان دخان الشهوات، وأخلاق النفس مغيمة كغيوم الآفاق إذا أحاطت بالأرض فحجبت إشراق الشمس."
ـ[أبو سعد الغامدي]ــــــــ[16 Jun 2010, 08:03 م]ـ
* تصحيح عبارة
"فإنما نادى يوسف عليه السلام ذلك الأسف عند اشتداد حريق الرأفة"
فإنما نادى يعوقب عليه السلام ...........
¥