يقول الإمام الزمخشري في تفسير الآية: >فدلَّ على كمال كرمه بأنه علَّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب اللّه المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة اللّه العظيمة ولطيف تدبيره دليل إلا القلم والخط، لكفى به< (2). فقوم يُبتدأ الوحي عندهم بهذا الابتداء؛ لا يعقل أبداً أن يتركوا القلم ويناموا؛ ثم لا ينشط واحد من بينهم فيكتب أو يدون شيئاً (3).
2. الصحف: وقد وردت لفظة الصحف في سبعة مواضع من القرآن المكي. منها: في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} (4).
ففي هذه الآيات إشارة واضحة إلى كون القرآن الكريم في صحف. يقول ابن سِيدَه: >والصحيفة: التي يكتب فيها، والجمع صحائف وصُحُف وصُحْفٌ. وفي التنزيل: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}، يعني الكتب المنزَّلة عليهما، عليهما السلام< (5).
والفرق بين الصحف والمصحف كما يقول الحافظ العسقلاني: >أن الصحف الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر. وكانت سوراً مفرقةً كل سورة مرتبة بآياتها على حدة لكن لم يرتب بعضها إلى بعض، فلما نسخت ورتب بعضها إلى أثر بعض صارت مصحفاً< (1). وكلمة (صحيفة) لا تدل على الورق الذي نعرفه اليوم، ولكنها على كل حال شيء مبسوط خفيف الحمل يكتب عليه في سهولة (2). وقيل المقصود به هنا القراطيس التي تُكْتَبُ فيها (3).
يقول الإمام الآلوسي: > (في صحف)، قيل: صحف المسلمين على أنه إخبار بالغيب، فإن القرآن بمكة لم يكن في صحف، وإنما كان متفرقاً في الرقاع والجريد ونحوهما ...
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب ابن منبه: أنهم ـ السفرة ـ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: لأنهم سفراء ووسائط بينه وبين سائر الأمة وقيل: لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير والتعلم والتعليم< (4).
يقول الإمام أبو الفرج البغدادي: >وقوله (بأيدي سفرة) فيه قولان، أحدهما أنهم الملائكة، قاله الجمهور. والثاني: أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قاله وهب بن منبه ... < (5).
ويقول الإمام الرازي: >القول الثاني في تفسير الصحف أنها هي صحف الأنبياء لقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى}، يعني أن هذه التذكرة مثبتة في صحف الأنبياء المتقدمين، والسفرة الكرام البررة هم أصحاب رسول اللّه، وقيل هم القراء< (6).
فقد أعلم اللّه تعالى في القرآن بأنه مجموع في الصحف في قوله تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللّه يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرةً} (7)، وكان القرآن مكتوباً في الصحف، لكن كانت مفرقةً فجمعها أبو بكر في مكان واحد (8).
3. النبي صلى الله عليه وسلم والاستكتاب: ومن الآيات التي تدل وبوضوح على أن القرآن الكريم في مكة كان يكتب في الصحف، وأن المشركين كانوا على علم بتلك الصحف قوله تعالى على لسان المشركين: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِيْن اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيْلاً} (1).
يقول الفيروزآبادي: >ويقال: اكتتب فلان فلاناً: إذا سأله أن يكتب له كتاباً في حاجة، وعليه فسر بعضهم: {أَسَاطِيرُ الأوَّلِيْن اكْتَتَبَهَا} أي استكتبها< (2). وقيل: اكتتبها: أي بمعنى جمعها وسجلها (3). أو بمعنى انتسخها من غيره (4).
قال الزمخشري: >والمعنى: اكتتبها كاتب له، لأنه كان أمياً لا يكتب بيده، وذلك من تمام إعجازه ... فإن قلت: كيف قيل: {اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْه}، وإنما يقال أمليت عليه فهو يكتتبها؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أراد اكتتابها أو طلبه فهي تملى عليه، أو كتبت له وهو أمي فهي تملى عليه: أي تُلقى عليه من كتابه يتحفظها لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب< (5).
¥