إنه تعالى يُشعر الإنسان شوقاً ورغبة في الذهاب إلى حيث رحل تسعٌ وتسعون بالمائة من أحبته الذين يرتبط معهم والذين استقروا في عالم آخر، فتدفع تلك المحبة الجادة الانسان ليستقبل الموت والأجل بسرور وفرح.
الوجه الثالث:
إنه تعالى يدفع الانسان ليستشعر ضعفه وعجزه غير المتناهيين، سواءً بمدى ثقل الحياة أو تكاليف العيش أو أمور اخرى، فيولد لديه رغبة جادة في الخلود الى الراحة وشوقاً خالصاً للمضي الى ديار اخرى.
الوجه الرابع:
إنه تعالى يبيّن للإنسان المؤمن - بنور الايمان - أن الموت ليس إعداماً بل تبديل مكان، وأن القبر ليس فوهة بئر عميق بل باب لعوالم نورانية، وأن الدنيا مع جميع مباهجها في حكم سجن ضيق بالنسبة لسعة الآخرة وجمالها. فلا شك أن الخروج من سجن الدنيا والنجاة من ضيقها إلى بستان الجنان الاخروية، والانتقال من منغصات الحياة المادية المزعجة الى عالم الراحة والطمأنينة وطيران الارواح، والانسلاخ من ضجيج المخلوقات وصخبها الى
الحضرة الربانية الهادئة المطمئنة الراضية،
سياحة بل سعادة مطلوبة بألف فداء وفداء.
الوجه الخامس:
إنه تعالى يفهّم المنصت للقرآن الكريم ما فيه من علم الحقيقة، ويعلّمه بنور الحقيقة ماهية الدنيا، حتى يغدو عشقها والركون اليها تافهاً لا معنى له .. أي يقول له ويثبت:
إن الدنيا كتاب رباني صمداني مفتوح للأنظار، حروفه وكلماته لا تمثل نفسها، بل تدل على ذات بارئها وعلى صفاته الجليلة وأسمائه الحسنى، ولهذا فافهم معانيها وخذ بها، ودَع عنك نقوشها وامض الى شانك ..
واعلم انها مزرعة للآخرة، فازرع واجنِ ثمراتها واحتفظ بها، وأهمل قذاراتها الفانية ..
واعلم أنها مجاميع مرايا متعاقبة، فتعرّف إلى مَن يتجلى فيها، وعاين أنواره، وأدرك معاني أسمائه المتجلية فيها وأحبب مسمّاها، واقطع علاقتك عن تلك القطع الزجاجية القابلة للكسر والزوال ..
واعلم أنها موضع تجارة سيار، فقم بالبيع والشراء المطلوب منك، دون أن تلهث وراء القوافل التي أهملتك وجاوزتك، فتتعب ..
واعلم أنها متنزّه مؤقت فاسرح ببصرك فيها للعبرة، ودقق في الوجه الجميل المتستر، المتوجه الى الجميل الباقي، وأعرض عن الوجه القبيح الدميم المتوجه إلى هوى النفس، ولا تبك كالطفل الغرير عند انسدال الستائر التي تريك تلك المناظر الجميلة ..
واعلم أنها دار ضيافة، وأنت فيها ضيف مكرم، فكل واشرب بإذن صاحب الضيافة والكرم، وقدّم له الشكر، ولا تتحرك الاّ وفق أوامره وحدوده، وارحل عنها دون أن تلتفت إلى ورائك .. وإياك أن تتدخل بفضول في أمور لا تعود إليك ولا تفيدك بشئ، فلا تغرق نفسك بشؤونها العابرة التي تفارقك.
وهكذا بمثل هذه الحقائق الظاهرة يخفف سبحانه وتعالى عن الانسان كثيراً من آلام فراق الدنيا، بل قد يحببه إلى النابهين اليقظين، بما يظهر سبحانه عليه من أسرارحقيقة الدنيا، وأنها اثرٍ من آثار رحمته الواسعة في كل شئ، وفي كل شأن. وإذ يشير القرآن الكريم الى هذه الوجوه الخمسة، فان آيات كريمة تشير الى وجوه خاصة اخرى كذلك.
فيا لتعاسة من ليس له حظ من هذه الوجوه الخمسة.
المقام الثاني
...........