تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مرتفع لم يخش عليها إلا من قلة الشرب فقال تعالى: {أصابَها وَابِلٌ} * [البقرة: 265]، وهو المطر الشديد العظيم القدر فأدت ثمرتها وأعطت بركتها فأخرجت [ثمرتها] ضعفى ما يثمر غيرها أو ضعفى ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل، فهذا حال السابقين المقربين: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَل} * [البقرة: 265]، فهو دون الوابل، فهو يكفيها لكرم منبتها وطيب مغرسها فتكتفى فى إخراج بركتها بالطل، وهذا حال الأبرار المقتصدين فى النفقة وهم درجات عند الله، فأصحاب الوابل أعلاهم درجة، وهم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وأصحاب الطل مقتصدوهم.

ثم قال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُم أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فأَصَابَها إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} * [البقرة: 266]، قال الحسن: هذا مثلٌ قلَّ والله من يعقله من الناس، شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.

وفى صحيح البخارى عن عبيد بن عمير قال: سأل عمر يوماً أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم: فيم هم يرون هذه الآيات نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّنْ نَخِيلٍ} * [البقرة: 266] الآية؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: فى نفسى منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: قم يا ابن أخى ولا تحقر بنفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل. قال عمر: أى عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل عمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصى حتى أغرق أعماله.

فقوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} أخرجه مخرج الاستفهام الإنكارى، وهو أبلغ من النفى والنهى وألطف موقعاً، كما ترى غيرك يفعل فعلاً قبيحاً فنقول: لا يفعل هذا عاقل، لا يفعل هذا من يخاف الله والدار الآخرة. وقال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار العام، كما تقول يفعل هذا أحد فيه خير؟ وهو أبلغ فى الإنكار من أن يقول أيودون. وقوله: ((أَيَوَدُّ)) أبلغ فى الإنكار من لو قيل: أَيريد، لأن محبة هذا الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها.

وقوله تعالى: {أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} خص هذين النوعين من الثمار بالذكر لأنهما أشرف أنواع الثمار وأكثرها نفعاً، فإن منهما القوت والغذاءَ والدواءَ والشراب والفاكهة والحلو والحامض، ويؤكلان رطباً ويابساً، ومنافعهما كثيرة جداً.

والمقصود أن هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها، فالجنة المشتملة عليهما من أفضل الجنان، ومع هذا فالأنهار تجرى تحت هذه الجنة، وذلك أكمل لها وأعظم فى قدرها، ومع ذلك فلم تعدم شيئاً من أنواع الثمار المشتهاة بل فيها من كل الثمرات، ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب، فلا تنافى بين كونها من نخيل وأعناب، و {فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} * [البقرة: 266]، ونظير هذا قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} * [الكهف: 32] إلى قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} * [الكهف: 34] ثم قال تعالى: ((فأَصَابَهَا)) أى الجنة ((إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ))، وفى [الكهف]: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِى خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} * [الكهف: 42]، وما ذلك إلا ثمار الجنة.

ثم قال تعالى: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته، وتعلق قلبه بها من وجوه،

أحدها: أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها،

الثانى: أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه،

الثالث: أن له ذرية فهو حريص على بقاءِ جنته لحاجته وحاجة ذريته،

الرابع: أنهم ضعفاءُ فهم كل عليه لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير