القول الأول: أنّها تابعةٌ للآيةِ السابقةِ لها، فآيةُ {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} المقصودُ بها الثَّيِّبُ، وآيةُ {اللَّذَانِ} المقصودُ بها البِكْرُ.
إلاّ أنّ هذا القولَ يَرُدُّهُ حديثُ عبادةَ بن الصامتِ t المتقدِّمُ؛ إذْ ذَكَرَ حكمَ الثيبِ والبكرِ، ولَمْ يكتفِ بذكرِ الثيبِ، كما يدلُّ عليه هذا القولُ.
فالحبسُ حتّى الموتِ في آيةِ: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} غيرُ مَعْمُولٍ بهِ بالاتّفاقِ
(10)، سواء قلنا إنّه مَنسوخٌ كما هو مَذهبُ بعض أهلِ العلم (11)، أو أنّه لا يُسمَّى نَسْخًا وإنّما هو تخصيصٌ؛ لأنّ الحكمَ الأولَ جعلَ الله له غايةً وهو الموتُ أو صُدُور تشريعٍ جديد في شَأْنِ الزانيةِ ثم وقعَ بيانُ الغايةِ بعد ذلكَ كما هو مَذهبُ طائفةٍ مِن أهلِ العلم. (12)
القول الثاني: أنّها حُكْمٌ مُستقلّ، ثم اختلفوا: هل هو باقٍ أم مَنسوخ؟ على قولين:
القول الأول: أنّه مَنسوخٌ، واخْتُلِفَ في ناسخهِ كما اخْتُلِفَ في ناسخِ آيةِ: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}، وزادَ بعضهم: أنّها مَنسوخةٌ بآيةِ: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}، ومعنى هذا القولِ أنّ آيةَ الأذى هي الأُولَى نُزولاً ثم نُسِخَ بالإمساكِ ولكن التلاوةَ أخَّرَت وقدّمَت. (13)
قُلْتُ: وهذا إنْ صَحَّ فهو يدلُّ على أنّ عقوبةَ الزِّنا قد مَرَّتْ في الإسلامِ بمراحلَ كمراحلِ تحريم الخمر، وهي:
المرحلةُ الأولى: الأذى، وتدلُّ عليها آيةُ: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} فتكون أَوّل الآياتِ نُزولاً.
المرحلة الثانية: الحبْسُ حتّى الموتِ، وتدلّ عليها آيةُ {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}.
المرحلة الثالثة: الجَلْدُ للبِكْرِ والرَّجْمُ للثَّيِّبِ، وتدلُّ عليها آيةُ النورِ وحديثُ عبادةَ بن الصامت.
القول الثاني: أنّها مُحْكَمةٌ، وأنّ الأذى باقٍ لَمْ يُنْسَخْ، ورجّحهُ القرطبيُّ) (14)؛ إذْ لا تَعارُضَ بينَ إيذائِهمَا وإقامةِ الحدِّ عليهما بلْ إنّ الحدَّ مِن إيذائِهمَا، ويشهدُ له قوله تعالى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور: من الآية2) فإنّ التشهيرَ بهما مِن إيذائِهمَا.
وخُلاصةُ ما تقدّم؛ والعلمُ عندَ الله:
1 – أنّ كِلا الآيتينِ هُمَا في فاحشةِ الزِّنَا.
2 - أنّ آيةَ {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} إمّا أنْ تكونَ مَنسوخةً بآيةِ {وَاللاَّتِي}، وهذا إنْ ثَبَتَ تَقَدُّمُ نُزولِهَا، أو أنّها مُحْكَمَةٌ على ما تقدّمَ تقريره.
3 – الجمعُ بينَ النصوصِ إنْ أمْكَنَ أَوْلَى مِن القولِ بالنسخِ.
هذا ما اجتهدتهُ في بيانِ هذه الآيةِ، فإنْ كانَ صوابًا فمن الله وحده، وإنْ كانَ خطأً فمن نفسي والشيطان؛ وأستغفر الله منه.
كتبه: أحمد بن محمد البريدي
[ line] حواشي سفلية
(1) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 458).
(2) أحكام القرآن لابن العربي (1/ 458).
(3) انظر: تفسير ابن جرير (4/ 295).
(4) مِنهم: يحي بن سعيد القطّان، وابن حبّان. انظر: تهذيب التهذيب (3/ 284)، جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي صـ (218).
(5) مجموع فتاوى ابن تيمية (17/ 409).
(6) انظر: تفسير ابن جرير (4/ 297).
(7) انظر: تفسير أبي السعود (1/ 155).
(8) الحديث رواه مسلم في كتاب: الحدود / باب: حَدُّ الزِّنَى (2/ 1316) برقم (1690).
(9) انظر: تفسير ابن جرير (4/ 295)، أحكام القرآن (1/ 465).
(10) قال ابن عطية:" وأجمعَ العلماءُ على أنّ هاتينِ الآيتين مَنسوختان " (تفسير ابن عطية 4/ 48).
وقالَ ابن العربي:" اجتمعت الأمّةُ على أنّ هذه الآية ليست مَنسوخة " (أحكام القرآن 1/ 457).
وسببُ هذا التَّضَادِّ: هل يُسمَّى ما وقع نسخًا أو تخصيصًا؟ وقد وقعَ فيه الخلافُ كما سأبينهُ، فلا إجماعَ وإنّما الإجماعُ هو ما قالهُ ابن عطية:" وأمّا الحبسُ فمنسوخٌ بإجماع " المرجع السابق.
(11) اختلفَ القائلونَ بالنسخِ في ناسخِ آيةِ {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}، فمنهم مَن يقولُ: إنّه حديثُ = = عبادة بن الصامت t ، ومنهم مَن يقولُ: إنّه آيةُ النورِ، ومنهم مَن قالَ غير ذلكَ وكُلُّ ما ذُكِرَ لهُ وَجْهٌ ومحتمل إلاّ قولَ مَن قالَ: إنّ الناسخَ هو الآيةُ التي بعدها وهي آيةُ الأذى فَيَرُدُّهُ حديثُ عبادةَ t ؛ إذْ أشارَ إلى آيةِ {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} دونَ آيةِ {وَاللَّذَانِ}.
(12) انظر: أحكام القرآن (1/ 457)، مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 242). قال القرطبيُّ:" وإطْلاقُ المتقدِّمينَ النسخَ على مثلِ هذا تَجَوُّزٌ " (تفسير القرطبي 5/ 57).
(13) انظر: تفسير ابن عطية (4/ 46)، تفسير البيضاوي (1/ 206).
(14) انظر: تفسير القرطبي (5/ 57)
¥