وهذا المنهج الذي انتهجه ابن أبي الفضل المرسي في بيان اشتمال القرآن الكريم على هذه العلوم والفنون، غريب وبعيد عن مقصد القرآن الكريم وهدايته.
ثم جاء جلال الدين السيوطي فتابع من قبله من العلماء القائلين بأن القرآن يشتمل على علوم الأولين والآخرين، فيسوق في كتابه: (معترك الأقران في إعجاز القرآن) الآيات والأحاديث والآثار وأقوال العلماء التي تدل على أن القرآن مشتمل على كل العلوم.
وكذلك بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي الذي يرى أنه يمكن استخراج كل شيء من القرآن، ولذلك نجده ينقل في كتابه (البرهان في علوم القرآن) أقوال بعض الصحابة في هذا الشأن، كما ينقل قول الإمام الغزالي الذي ذكره في كتابه (إحياء علوم الدين) حيث يعقد فصلاً خاصاً في حاجة المفسر إلى الفهم والتبحر في العلوم، يقول فيه:
» كتاب الله بحره عميق، وفهمه دقيق، لا يصل إلى فهمه إلا من تبحر في العلوم، وعامل الله بتقواه في السر والعلانية، وأجلَّه عند مواقف الشبهات «.
ولما أصاب المسلمين ما أصابهم من جمود فكري في القرون الأواخر، حتى قال الفيلسوف الفرنسي (أرنست رينان في المجمع العلمي الفرنسي:
» إن العلم والدين الإسلامي لا يجتمعان «.
لذا قام بعض العلماء في العصر الحديث للدعوة إلى الانفتاح على العلوم العصرية، للاستفادة منها فيما ينفع المسلمين في دينهم ودنياهم.
منهم الشيخ محمد عبده الذي ترك تفسيراً لجزء» عمَّ «ألفه ككتاب مدرسي، يقول في تفسيره لسورة الفيل: وفي اليوم الثاني فشا في جند الحبش داء الجدري والحصبة.
ثم ذكر رواية عكرمة: أن أول ما رؤيت الحصبة
والجدريببلاد العرب في ذلك العام.
ثم عقب على ذلك بقوله: هذا ما اتفقت عليه الروايات ويصح الاعتقاد به ... إلى أن قال: فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض .... وإن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وأن هذا الحيوان الصغير الذي يسمونه الآن (بالميكروب) () لا يخرج عنها ().
وهذا الذي قاله محمد عبده في تفسيره لسورة الفيل،عليه مآخذ منها:
ـ حديث الجدري والحصبة في هذا المقام مقحم، لا ينبغي أن يعول عليه في تفسير سورة بدأها الله بصيغة التعجب والتعظيم لصنعه، قال ابن الأثير: وقال كثير من أهل السير، إن الحصبة والجدري أول ما رؤيا في العرب بعد الفيل، وهذا مما لا ينبغي أن يعرَّج عليه، فإن هذه الأمراض قبل الفيل منذ خلق الله العالم ().
ـ أما قوله: هذا ما اتفقت عليه الروايات، فغريب في باب العلم، وعجيب في باب التفسير، لأن الروايات لم تتفق على هذا، فذكرت روايات: أنها أشبه بالوطاويط، وبعضها ذكر أنها أشبه باليعاسيب وهي ذكور النحل، وذكر بعضها أنها أشبه بالخطاف.
ـ لم يعرف في اللغة العربية واستعمالاتها إطلاق لفظ (الطير) على الحيوان المسمى
(بالميكروب).
ـ قوله: يجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، تحميل لآيات القرآن الكريم فوق طاقة أسال
ساليب العربية، وفوق طاقة أفهام من نزل القرآن عليهم لتعجيبهم من شأن هذه الحادثة المبدعة إرهاصاً لمقدم بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين ().
وممن نَهَج نَهْج التفسير العلمي للقرآن الكريم أيضاً، الشيخ طنطاوي جوهري ()، الذي كان يؤمن بأن القرآن الكريم لا يفسر إلا بالعلم الحديث، فألف تفسيراً للقرآن الكريم سماه: (الجواهر في تفسير القرآن الكريم) مزج فيه الآيات القرآنية بالعجائب الكونية، وأمَّل من تفسيره هذا أن يشرح الله به قلوباً ويهدي به أمماً وتنقشع به الغشاوة عن أعين عامة المسلمين فيفهموا العلوم الكونية.
يبدأ طنطاوي جوهري في تفسيره بشرح الألفاظ ثم يتوسع في الفنون العصرية والعلوم الكونية، وينقل عن التوراة والإنجيل كثيراً، ويردُّ على بعض النصارى والمستشرقين، ويستشهد بكلام بعض علماء الغرب، وكثيراً ما يضع في تفسيره بعض الصور للنباتات والحيوانات، ومناظر الطبيعة، والتجارب العلمية، والجداول الإحصائية.
فجاء تفسيره مزيجاً من علوم الأمم قديماً وحديثاً، وربما وفق بين الآراء الحديثة والأفكار الدينية.
¥