ولا يصح الاعتراض على هذا بالكفار، فيقال: هذا التجويز ممكن في الكفار على اختلاف أنواعهم، لأنا نقول فرق بين من أصله الإسلام، ومن أصله الكفر فإن الحمل على الأصل مع اللبس هو الواجب لاسيما، والخروج من الكفر إلى الإسلام لا يكون إلا بأقوال، وأفعال لا بمجرد عقد القلب، والتوجه بالنية المشتملين على الندم، والعزم على عدم المعاودة، فإن ذلك يكفي في التوبة، ولا يكفي في مصير الكافر مسلما. اهـ.
أقول: لو أضاف القائل إلى كلامه: إن لم يتب من قوله .. ، أو ينسب الكلام للقول، فيقول: من قال كذا، وكذا ... فحكمه كذا .. أو نحوه مما هو معلوم؛ فلعلها تبرأ ذمته إن شاء الله، فما زال أئمة الدين يبينون أحوال أمثال هؤلاء نصحا لدين الله، ولعباده ..
ـ إلى أن قال ـ: وفي هذه الإشارة كفاية لمن له هداية وفى ذنوبنا التي قد أثقلت ظهورنا لقلوبنا أعظم شغلة، وطوبى لمن شغلته عيوبه، ومن حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه (أقول: أحيانا يدخل في نصيحة المؤمنين وتحذيرهم من هذه المذاهب الرديئة، وهذا مما يعنيه) فالراحلة التي قد حملت مالا تكاد تنوء به إذا وضع عليها زيادة عليه انقطع ظهرها، وقعدت على الطريق قبل وصول المنزل، وبلا شك أن التوثب على ثلب أعراض المشكوك في إسلامهم فضلا عن المقطوع بإسلامهم جراءة غير محمودة، فربما كذب الظن، وبطل الحديث، وتقشعت سحائب الشكوك، وتجلت ظلمات الظنون، وطاحت الدقائق وحقت الحقائق، وأن يوما يفر المرء من أبيه ويشح بما معه من الحسنات على أحبابه، وذويه لحقيق بأن يحافظ فيه على الحسنات، ولا يدعها يوم القيامة نهبا بين قوم قد صاروا تحت أطباق الثرى قبل أن يخرج إلى هذا العالم بدهور، وهو غير محمود على ذلك، ولا مأجور، فهذا مالا يفعله بنفسه العاقل، وأشد من ذلك أن ينثر جراب طاعاته، وينثل كنانة حسناته على أعدائه غير مشكور بل مقهور، وهكذا يفعل عند الحضور للحساب بين يدي الجبار بالمغتابين، والنمامين، والهمازين، واللمازين، فإنه قد علم بالضرورة الدينية أن مظلمة العرض؛ كمظلمة المال، والدم، ومجرد التفاوت في مقدار المظلمة لا يوجب عدم إنصاف ذلك الشيء المتفاوت، أو بعضه بكونه مظلمة، فكل واحدة من هذه الثلاث مظلمة لآدمي، وكل مظلمة لآدمي لا تسقط إلا بعفوه وما لم يعف عنه باق على فاعله يوافي عرصات القيامة، فقل لي كيف يرجو من ظلم ميتا بثلب عرضه أن يعفو عنه؟ ومن ذاك الذي يعفو في هذا الموقف، وهو أحوج ما كان إلى ما يقيه عن النار، وإذا التبس عليك هذا فانظر ما تجده من الطباع البشرية في هذه الدار، فإنه لو ألقي الواحد من هذا النوع الإنساني إلى نار من نيار هذه الدنيا، وأمكنه أن يتقيها بأبيه أو بأمه أو بابنه أو بحبيبه؛ لفعل! فكيف بنار الآخرة التي ليست نار هذه الدنيا بالنسبة إليها شيئا، ومن هذه الحيثية قال بعض من نظر بعين الحقيقة: لو كنت مغتابا أحدا لاغتبت أبي وأمي لأنهما أحق بحسناتي التي تؤخذ منى قسرا وما أحسن هذا الكلام.
ولا ريب أن أشد أنواع الغيبة، وأضرها، وأشرها وأكثرها بلاء، وعقابا ما بلغ منها إلى حد التكفير، واللعن فإنه قد صح أن تكفير المؤمن كفر، ولعنه راجع على فاعله، وسبابه فسق، وهذه عقوبة من جهة الله سبحانه. وأما من وقع له التكفير، واللعن، والسب، فمظلمة باقية على ظهر المكفر واللاعن والسباب، فانظر كيف صار المكفر كافرا، واللاعن ملعونا، والسباب فاسقا ولم يكن ذلك حد عقوبته، بل غريمه ينتظر بعرصات المحشر ليأخذ من حسناته، أو يضع عليه من سيئاته بمقدار تلك المظلمة، ومع ذلك فلا بد من شيء غير ذلك، وهو العقوبة على مخالفة النهي لأن الله قد نهى في كتابه، وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الغيبة بجميع أقسامها، ومخالف النهي فاعل محرم، وفاعل المحرم معاقب عليه، وهذا عارض من القول جرى به القلم، ثم أحجم عن الكلام سائلا من الله حسن الختام.
ومما فاتني أن أنبه عليه كثرة الأشعار، والمطارحات الأدبية في الكتاب خصوصا مطارحة المؤلف مع معاصريه، وكذا مطارحات علماء اليمن فالكتاب مليء ولعلي أختم المراد بهذا النقل ففيه عدة فوائد مستحسنة:
في ترجمة السيد صلاح بن أحمد المؤيدي 1/ 293 قال:
كان من عجائب الدهر وغرائبه فان مجموع عمره تسع وعشرون سنة، وقد فاز من كل فن بنصيب وافر وصار له في الأدب قصائد طنانة يعجز أهل الأعمار الطويلة عن اللحاق به فيها، وصنف في هذا العمر القصير التصانيف المفيدة، والفوائد الفريدة العديدة، فمن مصنفاته شرح شواهد النحو، واختصر شرح العباسي لشواهد التلخيص، وشرح الفصول شرحا حافلا، وشرح الهداية ففرغ من الخطبة، وقد اجتمع من الشرح مجلد، وله مع ذلك ديوان شعر كله غرر، ودرر، وفيه معاني مبتكره فمنه
وصغيرة حاولت فض ختامها ... من بعد فرط تحنن وتلطف
وقلبتها نحوي فقالتْ عند ذا ... قلبي يحدثني بأنك متلفي
وهذا تضمين يطرب له الجماد، وترق لحسنه الصم الصلاد، ومع هذه الفضائل التي نالها في هذا الأمد القريب، فهو مجاهد ـ فذكر شيئا من جهاده ثم قال: ـ وغزا إلى جهات متعددة، وكان منصورا في جميع حروبه، وكان مجلسه معمورا بالعلماء، والأدباء، وأهل الفضائل.
قال القاضي أحمد بن صالح في مطلع البدور: رأيته في بعض الأيام خارجا إلى بعض المنتزهات بصعدة، فسمعت الرهج، وحركة الخيل، فوقفت لأنظر فخرج في نحو خمسة وثلاثين فارسا إلى منتزة، وهم يتراجعون في الطريق بالأدبيات، ومنهم من ينشد صاحبه الشعر، ويستنشده، وكان هذا دأبه، وإذا سافر أول ما تضرب خيمة الكتب، وإذا ضربت دخل إليها، ونشر الكتب، والخدم يصلحون الخيم الأخرى، ولا يزال ليله جميعه ينظر في العلم، ويحرر ويقرر مع سلامة ذوقه، وكان مع هذه الجلالة يلاطف أصحابه، وكتابه بالأدبيات والأشعار السحريات ...
انتهى المراد نقله من هذا الكتاب الجليل، وقد تركتُ فيه الكثير الكثير. والله أعلم.
¥