تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والتكرير له أغراض بلاغية كثيرة كالتأكيد والاستلذاذ بالكلام، وتعظيم الأمر وتهويله، وزيادة التنبيه، وطول الكلام الذي قد يسبب نسيانه، وتعدد المتعلق، كأن نكرر عبارة ما ولكن نحدث في كل مرة كلاما جديدا، ونرى مثل هذا في سورة الرحمن التي تكررت فيها آية: فبأي آلاء ربكما تكذبان واحدا وثلاثين مرة، لأنه في كل مرة يذكر نعمة من النعم، ويريد لفت النظر إلى أهمية كل واحدة على حدة

فهذا التكرار وجه من وجوه البلاغة القرآنية، فإن من خصائص البلاغة إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة، والقصة المتكررة ترد في كل موضع بأسلوب يتمايز عن الآخر، وتصاغ في قالب غير القالب، ولا يمل الإنسان من تكرارها بل تتجدد في نفسه معان لا تحصل له بقراءتها في المواضع الأخرى

وإن من تنوع طرق عرض الموضوعات في القرآن أنه يعرض القصة ملخصة حينا ثم يفصلها من البداية، وحينا يبين العاقبة والمغزى من مضمونها ثم يبدأ التفصيل، ونراه حينا يبدأ بها مباشرة بلا مقدمات، وحينا يقدمها كمشاهد حية نابضة تحدث أمامنا، وهو يتميز ببراعة الانتقال من موقف لآخر وتجاوز ما لا حاجة إليه وترك الذهن يستوحي منها الأحداث التي جرت بينما نتابع مع الآيات الأحداث المهمة وتفصيلاتها

ومن أغراض التكرير تجزئة الأفكار المراد بيانها حول موضوع واحد لتتكامل النصوص فيما بينها مؤدية غرض التأكيد لأصل الفكرة مع إضافات جديدة

ومن أغراض القرآن الدعوة إلى الله والتربية، وهما مما لا ينتهي المرء منهما بكلمة يلقيها، ولكنهما بحاجة إلى التذكير الدائم كما قال عز وجل: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، فقد تستدعي الحكمة التربوية تكرير التذكير بالتقوى، أو الترغيب والترهيب أو غير ذلك حسب المقتضيات الدعوية والتربوية

يقول الأستاذ صلاح عبد التواب: كانت أهمية التكرار أنه يعاود النفوس الغافلة المرة بعد المرة يزيل عنها غفلتها، كما يعاود النفوس المؤمنة المطمئنة بما يثبت فيها دعائم اليقين… فالتكرار إذن ظاهرة بلاغية لا يفطن إليها إلا كل من له بصر بفنون القول، وهو في القرآن أروع وأجمل من أن تتطاول إليه ألسنة المتقولين

هذا هو الرأي الأول للعلماء في موضوع التكرار في القرآن، وخلاصته أن ذلك من أساليب العربية التي جاء القرآن بها، التي تحقق بهذا التكرار أهدافا معينة تثري المعنى، وهذا أدعى لبيان إعجاز القرآن الذي يأتي لهم بالمعنى الواحد مقدما في عدة صور، ويتحداهم أن يأتوا بمثله، أو بشيء من مثله، ثم يعجزون عن الإتيان بأي صورة من الصور التي يظهر فيها الكلام

الثاني: وهو رأي ينفي التكرار تماما، لأنه يرى أن التكرار هو تكرار اللفظ نفسه في السياق نفسه للمعنى نفسه بغير فائدة، أما ما يأتي في سياق آخر ومناسبة أخرى غير التي جاء فيها أولا فإنه لا يعد تكرارا، وهذا ما يمكن أن نسميه بالتكامل أو يسميه بعض العلماء التنويع

هذا الأستاذ محمد قطب يقول: الظاهرة الحقيقية ليست هي التكرار، وإنما هي التنويع… لا يوجد نصان متماثلان في القرآن كله، إنما يوجد تشابه فقط دون تماثل، تشابه كذلك الذي قد يوجد بين الإخوة والأقارب، لكنه ليس تكرارا بحال من الأحوال، إنه مثل ثمار الجنة: " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها"… وإن التنويع ذاته لجمال فوق أنه يذهب عن النفس الملال

ويقول الشيخ عبدالرحمن الميداني: على متدبر كلام الله أن يبحث في كل نص يبدو له أنه من النصوص المكررة في القرآن ليكتشف غرض التكرير إذا كان النص مكررا حرفيا، وليكتشف فوارق المعاني إذا كان النص المكرر مختلفا ولو بعض الشيء، ولو بكلمة أو حرف في كلمة، فكثير من النصوص التي يتوهم فيها التكرار هي ليست في الحقيقة مكررة، ولكنها متكاملة يؤدي بعضها من المعاني المرادة ما لا يؤديه البعض الآخر

فقصص القرآن ـ كمثال للتكرار أو التنويع ـ تأتي في كل مرة في سياق مختلف عن غيره، وله هدف خاص يسوق القصة من أجله لتظهر منها الأجزاء التي تناسب هذا الهدف المحدد، وكل سياق تأتي فيه القصة لا تتشابه ألفاظها وأجزاؤها مع القصة الثانية في السياق الثاني، بل لا يد من تقديم لكلمة وتأخير لأخرى، أو ذكر لشيء في موقف وعدم ذكره في المرة الثانية، وهكذا حسب مقتضيات المعنى والسياق، ووفق أغراض بلاغية أصيلة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير