وجيء من هذا الفعل بوزن فعال الذي للمبالغة دون الخانس والمنخنس إيذانا بشدة هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله، وأن ذلك دأبه ودينه، لا أنه يعرض له ذلك عند ذكر الله أحيانا0 بل إذا ذكر الله، هرب وانخنس وتأخر0 فإن ذكر الله هو مقمعته التي يقمع بها كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تردعه من سياط وحديد وعصي ونحوها0 فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه كالسياط والمقامع التي تؤذي من يضرب بها0 ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلا ضئيلا مضنى مما يعذبه ويقمعه به من ذكر الله وطاعته0
وفي أثر عن بعض السلف أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر؛ لأنه كلما اعترضه، صب عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة0 فشيطانه معه في عذاب شديد ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة ودعة0 ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا0 فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته، عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار0 فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه، أو يعذبه شيطانه0
وتأمل كيف جاء بناء الوسواس مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارا حتى يعزم عليها العبد، وجاء بناء الخناس على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل؛ لأنه كلما ذكر الله انخنس، ثم إذا غفل العبد عاوده بالوسوسة! فجاء بناء اللفظين مطابقا لمعنييهما0
فصل الصفة الثالثة للشيطان: وقوله الذي يوسوس في صدور الناس صفة ثالثة للشيطان0 فذكر وسوسته أولا، ثم ذكر محلها ثانيا، وأنها في صدور الناس0 وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد، ونفوذا إلى قلبه وصدره0 فهو يجري منه مجرى الدم، وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات0
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت: كان رسول الله معتكفا، فأتيته أزوره ليلا، فحدثته، ثم قمت، فانقلبت، فقام معي؛ ليقلبني- وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد- فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي أسرعا، فقال النبي على رسلكما إنها صفية بنت حيي0 فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا0 أو قال: شيئا0 رواه البخاري0
وفي الصحيح أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: إذا نودي بالصلاة، أدبر الشيطان، وله ضراط0 فإذا قضي، أقبل فإذا ثوب بها أدبر فإذا قضي أقبل حتى يخطر بين الإنسان وقلبه فيقول اذكر كذا اذكر كذا حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا فإذا لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا سجد سجدتي السهو0 رواه البخاري ومسلم0
ومن وسوسته ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي قال: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ ومن خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فمن وجد ذلك، فليستعذ بالله ولينته0 رواه البخاري ومسلم0
وفي الصحيح أن أصحاب رسول الله قالوا: يا رسول الله! إن أحدنا ليجد في نفسه ما لإن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به0 قال الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة0 صحيح0
ومن وسوسته أيضا أن يشغل القلب بحديثه، حتى ينسيه ما يريد أن يفعله0 ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه0 قال تعالى حكاية عن صاحب موسى أنه قال: (إني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره الكهف 63) 0
وتأمل حكمة القرآن الكريم وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة شره جميعه0 فإن قوله: (من شر الوسواس 4) يعم كل شره، ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا؛ وهي الوسوسة التي هي مباديء الإرادة0 فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية فيوسوس إليه ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه فيصير شهوة ويزينها له ويحسنها ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه فيصير إرادة ثم لا يزال يمثل ويخيل ويمني ويشهي وينسى علمه بضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها فيحول بينه وبين مطالعته فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط وينسى ما وراء ذلك فتصير الإرادة عزيمة جازمة فيشتد الحرص عليها من القلب فيبعث الجنود في الطلب فيبعث الشيطان معهم مدادا لهم وعونا فإن فتروا حركهم وإن ونوا أزعجهم كما قال تعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم
¥