أول الأدلة وأبرزها قوله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير. ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير. أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" (البقرة: 106 - 108)، فهذه الآيات الكريمات هي عمدة القائلين بالنسخ.
ومعناها عند عامة العلماء أو جمهورهم: ما قاله ابن جرير الطبري في (جامع البيان) ونقله عنه الحافظ ابن كثير: قال: "ما ننسخ من آية .. " ما ننقل من حكم آية إلى غيره، فنبدله ونغيره، وذلك: أن نحول الحلال حراما، والحرام حلالا، والمباح محظورا، والمحظور مباحا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة. فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. قال ابن كثير: وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب، لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء، ولحظ بعضهم أنه: رفع الحكم بدليل شرعي متأخر [1]. انتهى.
ومن أدلتهم من القرآن أيضا قوله تعالى: "وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون" (النحل: 101).
قالوا: المراد بالتبديل هنا: النسخ.
2ـ إقرار العلماء كافة بوجود النسخ:
ومن الأدلة على شرعية النسخ أن العلماء من قديم قالوا بمبدأ النسخ، وذهبوا إلى أن في القرآن آيات منسوخة، وإن اختلفوا فيها اختلافا كثيرا، فهذا يقول بنسخ هذه الآية، وآخر أو آخرون يعارضونه. ولكن المحصلة النهائية أنهم جميعا أقروا بقاعدة النسخ.
وقد ذكر ذلك في كتب التفسير كلها، كما ألفت كتب خاصة في الناسخ والمنسوخ في القرآن: لأبي عبيد، وأبي جعفر النحاس، وابن هبة الله الضرير، وابن العربي، وابن الجوزي، وغيرهم، ممن أحصاهم الدكتور مصطفى زيد -رحمه الله- في كتابه (النسخ في القرآن) وعقد لهم ولمؤلفاتهم فصلين كاملين من الباب الثاني في كتابه من: ص289، إلى: ص395، ومن الفقرات: 394 إلى 550.
ولكن الذي يتأمل ما جاء عن السلف فيما سموه (نسخا) يجد أن كثيرا منه ليس من النسخ المعروف عند المتأخرين في شيء، والآفة هنا تأتي دائما من إطلاق المصطلحات الحديثة موضع المصطلحات القديمة، مع تغايرهما وتباينهما، فقد كان المتقدمون من العلماء يريدون بالنسخ ما قد يسميه المتأخرون تخصيصا للعام أو تقييدا للمطلق، أو تفسيرا للمجمل، أو غير ذلك، ولا يعنون به (رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر).
وهذا ما نبه عليه المحققون من أمثال الإمام ابن القيم الحنبلي، والإمام الشاطبي المالكي، وهذا في المغرب، وذاك في المشرق.
يقول الإمام ابن القيم: "ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ، رفع الحكم بجملته تارة، وهو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام والمطلق وغيرها تارة، إما بتخصيص عام أو تقييد مطلق، وحمله على المقيد وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحدث المتأخر". [2]
ويقول الإمام أبو إسحاق الشاطبي: "الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد كانوا يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا. كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل متأخر نسخا، لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد". [3]
3ـ وجود المنسوخ بالفعل:
ومن أدلة القائلين بالنسخ: وجود المنسوخ بالفعل، وليس أدل على جواز الأمر من وقوعه بالفعل، فإن الوقوع أقوى من مجرد الجواز، فإن الشيء قد يكون جائزا ولا يقع.
ودليل الوجود بالفعل أمران:
¥