وكما أنه لا يوجد دليل قاطع من القرآن على شرعية النسخ، ولا دليل قاطع ولا غير قاطع من الحديث النبوي، فكذلك لا يوجد إجماع من الأمة ـ التي لا تجتمع على ضلالة ـ على جواز النسخ ووقوعه في القرآن.
وقد عرفنا من المخالفين للنسخ في القرآن أبا مسلم الأصفهاني، الذي يذكر الإمام فخر الدين الرازي في (تفسيره الكبير) أقواله المعارضة للنسخ في الآيات التي اشتهر فيها القول بالنسخ، كما يذكر دليله على عدم قبول النسخ. ويبدو لمن يتأمل كلام الرازي ونقله عن أبي مسلم، وعدم رده على قوله، يبدو وكأنه يؤيده بوجه من الوجوه، وفي بعض الأحيان قال: رأى أبي مسلم -إن لم يسبقه إجماع- فهو قول صحيح حسن [7]. وإن كلام أبي مسلم في تأويل بعض الآيات المدّعى نسخها لا يخلو من تكلف واعتساف.
وقد ذكر الإمام الزركشي في البرهان أن هناك من العلماء من نفى النسخ في القرآن، أو نفى النسخ بالكلية في الشريعة، فقد تكلم عن معنى النسخ ثم قال:
اختلف العلماء فقيل: المنسوخ ما رفع تلاوةً تنزيلُه، كما رفع العمل به، (يريد: أن ما بقي لفظُه متلوًا في القرآن لا ينسخ). ورد بما نسخ من التوراة والإنجيل بالقرآن، وهما متلوان. [8]
وقيل: لا يقع النسخ في قرآن يتلى وينزل. قال: ويفرّ هؤلاء من القول بأن الله ينسخ شيئا بعد نزوله والعمل به.
قال: والصحيح جواز النسخ ووقوعه سمعا وعقلا. [9] انتهى.
ومما يؤيد نفي الإجماع أنه لا توجد آية قيل بنسخها، إلا وجدنا من يخالف فيها من المفسرين المتقدمين.
ومعنى هذا أنه لا توجد آية في كتاب الله قد اتفق جميع العلماء على أنها منسوخة.
والأصل في آيات القرآن أن الله عز وجل إنما أنزلها ليُعمل بها، ويُهتَدى بهداها، لا ليبطل حكمها بآية أخرى. وإنه جعل هذا الكتاب متشابها يصدق بعضه بعضا، ويفسر بعضه بعضا، ويتكامل بعضه مع بعض، كما قال تعالى: "أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا" (النساء: 82)
يقول الإمام أبو محمد ابن حزم في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام):
لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين؛ لأن الله عز وجل يقول: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ" (النساء: 64) وقال تعالى: "اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ .. " (الأعراف: 3) فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه ـ ففرضٌ اتّباعه، فمن قال في شيء من ذلك: إنه منسوخ، فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر وأسقط لزوم اتّباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله، وإلا فهو مفترٍ مبطل، ومن استجاز خلاف ما قلنا ـ فقوله يئول إلى إبطال الشريعة كلها؛ لأنه لا فرق بين دعواه النسخ في آية ما أو حديث ما وبين دعوى غيره النسخ في آية أخرى وحديث آخر، فعلى هذا لا يصح شيء من القرآن والسنة، وهذا خروج عن الإسلام، وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون، ولا يجوز لنا أن نسقط طاعة أمر أمرنا به الله تعالى ورسوله، إلا بيقين نسخ لا شك فيه .. ). [10]
وبعد الإمام ابن حزم، نجد الإمام أبا إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي يؤكد ما قاله ابن حزم برغم تفاوت ما بينهما في الاتجاه، فابن حزم (ظاهري) والشاطبي (مقاصدي). يقول الشاطبي في (موافقاته):
إن الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق؛ لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق. ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبرَ المتواتر؛ لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون. فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعى نسخه فلا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ، بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين، ولا دعوى الإحكام فيهما. وهكذا يقال في سائر الأحكام، مكية كانت أو مدنية ... ).
¥