وبعد أن يقرر أن غالب ما ادعي فيه النسخ إذا تؤمل وجد متنازعا فيه، ومحتملا، وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه من كون الثاني تفصيلا لمجمل أو تخصيصا لعموم ... إلخ، وبعد أن يذكر أن ابن العربي قد أسقط من الناسخ والمنسوخ كثيرا بهذه الطريقة ـ نراه ينقل عن الطبري حكاية الإجماع عن أهل العلم على أن زكاة الفطر فرضت، ثم اختلافهم في نسخها، ليقول عقب هذا: قال النحاس: فلما ثبتت بالإجماع، وبالأحاديث الصحاح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يجز أن تزال إلا بالإجماع، أو حديث يزيلها ويبين نسخها. ولم يأت من ذلك شيء [11]. هذا فيما ثبت بالسنة فيكف بما ثبت بصريح القرآن؟
التضييق في دعاوى النسخ
على أن الذي يهمنا هنا أن نقرره ونبينه ونثبته، هو التضييق الشديد في دعاوى النسخ في كتاب الله، فإن الله تعالى لم ينزل كتابه إلا ليهتدى بهداه، ويعمل بأحكامه، وكل دعوى لنسخ آية أو بعض آية منه فهي على خلاف الأصل، وما جاء على خلاف الأصل لا يقبل إلا ببرهان يقطع الشك باليقين.
ولو طبقنا ما وضعه علماء أصول الدين وعلماء أصول الفقه وعلماء أصول التفسير وعلماء أصول الحديث من ضوابط وشروط، فإننا لا نكاد نجد آية في القرآن الكريم مقطوعا بنسخها، وما لم يقطع بنسخه فيجب أن يبقى حكمه ثابتا ملزما كما أنزل الله تعالى، ولا ننسخه ونبطل حكمه بمحض الظن، فإن الظن لا يغني من الحق شيئا.
من شروط قبول النسخ
ومن شروط قبول النسخ عند من سلم به: أن يكون هناك تعارض حقيقي بين النص الناسخ، والنص المنسوخ، بحيث لا يمكن الجمع بينهما بحال من الأحوال، أما إذا أمكن الجمع ولو في حال من الأحوال، فلا يثبت النسخ؛ لأنه خلاف الأصل.
ولهذا رأينا شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره (جامع البيان) يرفض كثيرًا من دعاوى النسخ المروية عن بعض المفسرين إذا لم يجد تنافيا كاملا بين الناسخ والمنسوخ.
انظر قوله فيما رُوي عن قتادة في الآية الكريمة من سورة الأنفال: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله" (الآية:61)، فقد ذهب قتادة إلى أن هذه الآية كانت قبل نزول سورة (براءة)، فلما نزلت نسخت ذلك، بمثل قوله تعالى: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" وقوله: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" فأمرت بقتالهم على كل حال حتى يقولوا: لا إله إلا الله.
وورد عن عكرمة والحسن البصري ما يوافق قول قتادة، وإن جعلا الآية الناسخة من براءة: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
قال الطبري رحمه الله يرد هذه الدعوى:
"فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله -من أن هذه الآية منسوخة- فقول لا دلالة عليه من كتاب، ولا سنة، ولا فطرة عقل، وقد دللنا – في غير موضع من كتابنا هذا وغيره – على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه، فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائن ناسخا" [12].
كيف يعرف النسخ؟
نقل السيوطي في إتقانه عن العلامة ابن الحصار قوله: "إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت آية كذا".
قال: "وقد نحكم به عند التعارض المقطوع به، مع علم التاريخ، لنعرف المتقدم والمتأخر".
قال: "ولا يعتمد في النسخ قول عوامّ المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بيّنة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم، وإثبات حكم تقرر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. والمعتمد فيه: النقل والتاريخ، دون الرأي والاجتهاد".
قال: "والناس في هذا بين طرفَيّ نقيض، فمن قائل: لا يقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن تساهل يكتفي فيه بقول مفسر أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما"، انتهى. [13]
وأود أن أقول هنا: إني لا أعرف نقلا صريحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آية كذا نسخت آية كذا. ومن عرف ذلك فليدلني عليه.
وأما قول الصحابي: آية كذا نسخت آية كذا، فلا بد لقبوله من ثلاثة شروط:
الأول: أن يصح سنده عن الصحابي.
الثاني: ألا يكون قاله باجتهاد منه، ظنًا منه أن الآية معارضة للآية الأخرى، وقد لا يسلم له بذلك، فهو يكون رأيا منه يعارض برأي غيره.
الثالث: ألا تكون كلمة النسخ جارية على مفهوم المتقدمين، وهو ما يشمل: تخصيص العام، وتقيد المطلق، وتفصيل المجمل، والاستثناء والغاية وغيرها.
ويندر وربما يتعذر أن توجد لدينا آية تتحقق فيها هذه الشروط.
ومن المهم هنا أن ننتبه إلى أهمية الشرط الثالث هنا، فكثير من المتقدمين يقولون: آية كذا نسخت آية كذا، ولا يقصد بذلك ما يقصده المتأخرون بكلمة النسخ، فلم يكن هذا الاصطلاح قد استقر عندهم، كما استقر عند من بعدهم، وهو: رفع حكم شرعي بدليل متأخر، وهذا ما نص عليه المحققون من أمثال ابن القيم والشاطبي رحمهما الله. وقد سبق نقل قولهما.
ـ[الطالب المبتدئ]ــــــــ[22 Jun 2004, 10:47 ص]ـ
وأما قول الصحابي: آية كذا نسخت آية كذا، فلا بد لقبوله من ثلاثة شروط:
الأول: أن يصح سنده عن الصحابي.
الثاني: ألا يكون قاله باجتهاد منه، ظنًا منه أن الآية معارضة للآية الأخرى، وقد لا يسلم له بذلك، فهو يكون رأيا منه يعارض برأي غيره.
الثالث: ألا تكون كلمة النسخ جارية على مفهوم المتقدمين، وهو ما يشمل: تخصيص العام، وتقيد المطلق، وتفصيل المجمل، والاستثناء والغاية وغيرها.
ويندر وربما يتعذر أن توجد لدينا آية تتحقق فيها هذه الشروط.
ومن المهم هنا أن ننتبه إلى أهمية الشرط الثالث هنا، فكثير من المتقدمين يقولون: آية كذا نسخت آية كذا، ولا يقصد بذلك ما يقصده المتأخرون بكلمة النسخ، فلم يكن هذا الاصطلاح قد استقر عندهم، كما استقر عند من بعدهم، وهو: رفع حكم شرعي بدليل متأخر، وهذا ما نص عليه المحققون من أمثال ابن القيم والشاطبي رحمهما الله. وقد سبق نقل قولهما.
هل هذا الكلام صحيح؟
¥