1 - أن الأول يقع على المسبَّح- وهو المسمَّى (ربك)؛ لأن المراد به تنزيه ذات الله جل جلاله. وأما الثاني فيقع على الاسم، والمسمَّى معًا (اسم ربك)؛لأن المراد به تنزيه الاسم أولاً، وتنزيه المسمَّى ثانيًا.
2 - أن الأول تسبيح بالجنان، والثاني تسبيح باللسان والجنان؛ لأن التسبيح نوع من الذكر، والذكر- على الحقيقة- محله القلب؛ لأنه ضدُّ النِّسيان. فلو قيل: سبح ربك، لما فهم منه إلا التسبيح القلبي. ولمَّا كان المراد من التسبيح في آية
الأعلى: التسبيح باللسان والجنان، جيء بلفظ الاسم، تنبيهًا على هذا المعنى؛ حتى لا يخلو التسبيح من اللفظ باللسان، فصار معنى الآية: نزِّه اسم ربك بلسانك وقلبك مما نسبه إليه المشركون.
ب- وأما التسبيح المقيَّد فهو الذي يتعدَّى إلى المفعول باللام. ومنه قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:1]. أي: سبح لله وحده، لا لغيره. فالتسبيح- هنا- مختصٌّ بذات الله جل جلاله. وهذا ما دلَّت عليه لام الاختصاص.
أما قوله تعالى: {فسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فهو من النوع الأول (التسبيح المطلق) الذي يتعدى إلى المفعول بنفسه؛ لأن معناه: نزِّه ربك بذكر اسمه المنبىء عن عظمته. والباء فيه للاستعانة، وما دخلت عليه هو آلة التسبيح.
وعلى هذا يكون الفرق بين قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى}، وقوله تعالى: {فسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أن التسبيح في الأول واقع على (اسم ربك الأعلى)؛ لأنه مفعول التسبيح. أما التسبيح في الثاني فواقع على المفعول المقدَّر؛ لأن (اسم ربك العظيم) هو آلة التسبيح، والمعنى: سبِّح ربك بذكر اسمه المنبىء عن عظمته. والأول تسبيح باللسان، والجنان. والثاني تسبيح باللسان فقط.
ومن الثاني قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ}. أي: نزِّه ربك بذكر اسمه المنبىء عن عظمته. والباء للاستعانة، وما دخلت عليه آلة التسبيح.
ومثل ذلك يقال في الباء الداخلة على الحمد، في نحو قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]؛ لأن المعنى- على حد قول النحاس-:” ليكن تسبيحك بحمد ربك “، وعلى حد قول الأخفش:”
لتكن سبحتك بالحمد لله “. وقال في موضع آخر: ” يكون تسبيحك بالحمد؛ لأن التسبيح هو ذكر، فقال: يكون ذكرك بالحمد على ما أعطيتك من فتح مكة، وغيره. ويقول الرجل: قضيت سبحتي من الذكر“.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكثر- بعد نزول سورة النصر- من قوله:” سبحانك اللهم، وبحمدك. أستغفرك، وأتوب إليك “. أي: وبحمدك أسبحك؛ كما قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44].
ولو قيل: وإن من شيء إلا يصلي بحمده، لكان غثًا من الكلام يأباه النظم الصحيح، والمعنى الفصيح .. والله تعالى أعلم بأسرار بيانه!
محمد إسماعيل عتوك