تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثانيًا- وحكى النحاس قول الفراء، الذي ابتدأنا به، ثم عقَّب عليه قائلاً:” إن كان قدَّر هذا على حذف الباء، فلا يجوز: مررت زيدًا، وإن كان قدَّره مما يتعدَّى بحرف وغير حرف فالمعنى واحد، فليس كذلك؛ لأن معنى {سبح باسم ربك}: ليكن تسبيحك باسم ربك. وقد تكلم العلماء في معنى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} بأجوبة كلها مخالف لمعنى ما فيه الباء“.

وأظهر هذه الأجوبة وأبينها- كما قال النحاس- قول من قال: المعنى:” نزِّه اسم ربك الأعلى، وبرِّئه من أن تنسبه إلى ما نسبه إليه المشركون؛ لأنه الأعلى. أي: القاهر لكل شيء. أي: العالي عليه“.

ثالثًا- أما الشيخ السهلي- رحمه الله- فقد ذهب في كتابه (نتائج الفكر في النحو) إلى أن التسبيح ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يراد به: التنزيه والذكر دون معنى يقترن به. والثاني: أن يراد به المتضمن لمعنى الصلاة.

فإذا كان المراد به التسبيح المجرَّد، فلا معنى لدخول الباء؛ لأنه لا يتعدى بحرف جر. وإذا كان المراد به المتضمن لمعنى الصلاة، أدخلت الباء بعده تنبيهًا على ذلك المعنى. فعلى هذا يكون معنى قوله تعالى {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ}:

صلِّ باسم ربك. أي: مفتتحًا باسمه. وتابعه في هذا القول ابن قيم الجوزية، رحمه الله، في كتابه (بدائع الفوائد).

رابعًا- إذا تأملت ما قدمنا من أجوبة، وتدبرت الآيتين الكريمتين حق التدبر، تبين لك أن أوْلى هذه الأجوبة بالصواب هو جواب النحاس، الذي ذهب فيه إلى أن معنى قوله تعالى {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}: ليكن تسبيحك باسم

ربك العظيم. أي: سبح ربك بذكر اسمه العظيم. أي: المنبىء عن عظمته جل جلاله، وهذا قول الأخفش تلميذ سيبويه، كما سيأتي.

وعلى هذا تكون الباء باء الاستعانة؛ وهي التي تدخل على آلة الفعل، وآلته- هنا- قوله تعالى: {اسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} آلة التسبيح. وهو كقولك: اضرب بالسيف، واكتب بالقلم.

فإذا ثبت ذلك، كان الفرق في المعنى ظاهرًا بين الآيتين الكريمتين. ولتوضيح ذلك نقول بعون الله وتعليمه: التسبيح في القرآن الكريم له معنى واحد، لا ثاني له؛ وهو تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله، وإثبات ما يليق بجلاله وكماله؛ لأن التسبيح- في اللغة- معناه: التبعيد من السوء، وأصله في اصطلاح الشرع: المرُّ السريع في عبادة الله تعالى؛ وهو من قولهم: سبَح في الكلام- بالتخفيف- إذا أكثر منه، والتشديد فيه للمبالغة.

ولهذا ينبغي ألا نخلط بين التسبيح، والصلاة من جهة، وبينه، وبين السجود من جهة أخرى، كما فعل الشيخ السهيلي، وابن قيم الجوزية، رحمهما الله. وما روي عن عائشة- رضي الله عنها- من قولها في صلاة الضحى:” إني لأسبحها “ لا يدل على أن المراد بالتسبيح الصلاة، وهو كقولهم:” قضيت سبحتي من الصلاة “.

وإنما جاز ذلك؛ لأن الصلاة مشتملة على التسبيح، فكل صلاة هي تسبيح، والعكس غير صحيح. أما تفسيرهم للتسبيح بمعنى الصلاة فهو من باب التجوُّز. ولهذا نجدهم يفسرون التسبيح في أغلب المواضع بمعنى الصلاة، وإن لم يكن مقترنًا بالباء؛ كقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11]. قال الرازي:” اتفق المفسرون على أنه أراد بالتسبيح الصلاة، وهو جائز في اللغة “.

ولم يكتفوا بذلك؛ وإنما فسروا التسبيح المقترن باللام بمعنى الصلاة؛ كقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ} [النور:36]. قال الرازي:” اختلفوا في معنى التسبيح فيه، فالأكثرون حملوه على معنى الصلاة “.

خامسًا- يستعمل التسبيح في القرآن الكريم على وجهين: أحدهما: أن يكون مطلقًا. والثاني: أن يكون مقيَّدًا.

أ- فأما التسبيح المطلق فهو الذي يتعدى إلى المفعول بنفسه،؛ نحو قولك: سبَّح اللهَ يسبحه تسبيحًا. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]. ومثله في ذلك قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}.

فالتسبيح في قوله تعالى: {يُسَبِّحُونَهُ} وقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} تسبيح مطلق. الأول تعدى إلى ضمير الاسم (ربك)، والثاني إلى (اسم ربك). ومن الفروق بين التسبيحين:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير