تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قال رحمه الله: (قال ابن العربي في «العارضة»: روى عبيدة السلماني عن علي أنّ جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فخيّره بين أن يقرِّب الأسارى فيضرب أعناقهم أو يقبلوا منهم الفداء، ويُقتل منكم في العام المقبل بعدّتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا جبريل يخيّركم أن تقدّموا الأسارى وتضربوا أعناقهم أو تقبلوا منهم الفداء ويستشهد منكم في العام المقبل بعدتهم "، فقالوا: يا رسول الله نأخذ الفداء فنقوى على عدوّنا ويقتل منّا في العام المقبل بعدّتهم، ففعلوا.

والمعنى أنّ النبي إذا قاتل فقتاله متمحّض لغاية واحدة، هي نصر الدين ودفع عدائه، وليس قتاله للملك والسلطان فإذا كان أتْباع الدين في قلّة كان قتل الأسرى تقليلاً لعدد أعداء الدين حتّى إذا انتشر الدين وكثر أتباعه صلح الفداء لنفع أتباعه بالمال، وانتفاء خشية عود العدوّ إلى القوة. فهذا وجه تقييد هذا الحكم بقوله: {ما كان لنبيء}.

والكلام موجّه للمسلمين الذين أشاروا بالفداء، وليس موجّهاً للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنّه ما فعل إلاّ ما أمره الله به من مشاورة أصحابه في قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159] لا سيما على ما رواه الترمذي من أنّ جبريل بلّغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخيّر أصحابه ويدلّ لذلك قوله: {تريدون عرض الدنيا} فإنّ الذين أرادوا عرض الدنيا هم الذين أشاروا بالفداء، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حظّ.

فمعنى {ما كان لنبيء أن يكون له أسرى} نفي اتّخاذ الأسرى عن استحقاق نبي لذلك الكون.

وجيء بـ (نبيء) نكرِة إشارة إلى أنّ هذا حكم سابق في حروب الأنبياء في بني إسرائيل، وهو في الإصحاح عشرين من سفر التثنية.

ومثل هذا النفي في القرآن قد يجيء بمعنى النهي نحو {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} [الأحزاب: 53]. وقد يجيء بمعنى أنه لا يصْلح، كما هُنا، لأن هذا الكلام جاء تمهيداً للعتاب فتعيّن أن يكون مراداً منه ما لا يصلح من حيث الرأي والسياسة.

ومعنى هذا الكون المنفي بقوله: {ما كان لنبيء أن يكون له أسرى} هو بقاؤهم في الأسر، أي بقاؤهم أرقّاء أو بقاء أعواضهم وهو الفداء. وليس المراد أنّه لا يصلح أن تقع في يد النبي أسرى، لأنّ أخذ الأسرى من شؤون الحرب، وهو من شؤون الغلَب، إذا استسلم المقاتلون، فلا يعقِل أحدٌ نفيه عن النبي، فتعيّن أنّ المراد نفي أثره، وإذا نفي أثر الأسر صدق بأحد أمرين: وهما المنّ عليهم بإطلاقهم، أو قتلُهم، ولا يصلح المنُّ هنا، لأنّه ينافي الغاية وهي حتى يثخن في الأرض، فتعيّن أنّ المقصود قتل الأسرى الحاصلين في يده، أي أنّ ذلك الأجدر به حين ضَعُف المؤمنين، خضِداً لشوكة أهل العناد، وقد صار حكم هذه الآية تشريعاً للنبيء صلى الله عليه وسلم فيمن يأسرهم في غزواته.

والإثخان الشدة والغلظة في الأذى. يقال أثخنته الجراحة وأثخنه المرض إذا ثقل عليه، وقد شاع إطلاقه على شدّة الجراحة على الجريح. وقد حمله بعض المفسّرين في هذه الآية على معنى الشدّة والقوة. فالمعنى: حتى يتمكّن في الأرض، أي يتمكّن سلطانه وأمره.

وقوله: {في الأرض} على هذا جار على حقيقة المعنى من الظرفية، أي يتمكّن في الدنيا. وَحَمَلَهُ في «الكشّاف» على معنى إثخان الجِراحة، فيكون جرياً على طريقة التمثيل بتشبيه حال الرسول صلى الله عليه وسلم المقاتل الذي يَجرَج قِرنَه جراحاً قوية تثخنه، أي حتّى يُثخن أعداءه فتصير له الغلبة عليهم في معظم المواقع، ويكون قوله: {في الأرض} قرينة التمثيلية.

والكلام عتاب للذين أشاروا باختيار الفداء والميللِ إليه، وغضّ النظر عن الأخذ بالحزم في قطع دابر صناديد المشركين، فإنّ في هلاكهم خضداً لشوكة قومهم فهذا ترجيح للمقتضَى السياسي العَرضي على المقتَضَى الذي بُني عليه الإسلام وهو التيسير والرفق في شؤون المسلمين بعضهم مع بعض كما قال تعالى: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29].

وقد كان هذا المسلك السياسي خفيّاً حتّى كأنه ممّا استأثر الله به، وفي الترمذي، عن الأعمش: أنّهم في يوم بدر سبقوا إلى الغنائم قبل أن تحلّ لهم، وهذا قول غريب فقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم، وهو في الصحيح.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير