وجاز في اللغة بمعنى قطع جوز الفلاة، والمجازاة الطريقة، والمادة ومشتقاتها تعني الانتقال بوجه عام، ومنه التجوز في الشيء، الترخص فيه. وعلى هذا المعنى بنى أبو عبيدة فهمه لكلمة مجاز، ويقصد (5):
1 - الانتقال في التعبير من وجه لآخر:
كالانتقال في التشبيه من وجه الشبه المعروف إلى وجه آخر غير معروف، أو مألوف. كما في قوله تعالى: (إنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجَحِيمِ، طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِين) [الصافات: 37/ 64 - 65]. وعلى أساس أن هذا الانتقال من تعبير قريب إلى تعبير بعيد غير معهود لغير العربي الأصيل. يرى أبو عبيدة أن في أسلوب القرآن مجازاً، وانتقالاً على طريقة العرب في الانتقال، أو الرخصة في التعبير.
وقد صرح أبو عبيدة في أن العرب لم يكونوا في حاجة إلى مثل كتابه لفهم المجاز في القرآن. لأنهم أعرف بفنون القول في لغتهم، ومن ثم في القرآن الذي جاء على أصول هذه اللغة عربياً مبيناً. فالفكرة التي تراود أبا عبيدة وهو يؤلف كتابه، كانت مدرسية، يحاول أن يضع أمام طبقة المستعربين صوراً من التعبير في القرآن، وما يقابله من التعبير في الأدب العربي شعراً ونثراً، ويبين ما فيها من التجاوز أو الانتقال من المعنى القريب أو التركيب المعهود للألفاظ والعبارات إلى معان أخرى اقتضاها الكلام.
فكلمة مجاز عنده إذاً ليست مجرد مقابل لكلمة تفسير، ولكي نثبت هذا نحب أن نعطي فكرة عامة عن دوران معنى الكلمة ليتضح الأمر.
(أ) قد يكون التحول في مدلول الكلمة لغوياً:
قد يتحول المعنى من مدلول صيغة إلى مدلول صيغة أخرى، من المصادر إلى الصفات، مثل قوله تعالى: (وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ([البقرة: 2/ 177]، يقول: فالعرب تجعل المصادر صفات، فمجاز البر هنا مجاز الصفة لمن آمن بالله. وقد يتحول مدلول الفاعل إلى المفعول، أو العكس، مثل قوله تعالى: (ما إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ([القصص: 28/ 76] والعصبة هي التي تنوء بالمفاتح. ومن مجاز ما يقع المفعول إلى الفاعل، قوله تعالى: (كَمَثَلِ الَّذي يَنعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ ([البقرة: 2/ 171] والمعنى على الشاة المنعوق بها، وحوَّل على الراعي الذي ينعق بالشاة. والأمثلة كثيرة على ذلك.
ومنه أيضاً تحول مدلول الأدوات والحروف، يقول: ومن مجاز الأدوات اللواتي لهن معان في مواضع شتى، فتجيء الأداة تتفق في بعض تلك المعاني، قال تعالى: (أَنْ يَضْرِبَ مثلاً ما بعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ([البقرة: 2/ 26] معناه فما دونها، وفي قوله تعالى: (والأرضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاها ([النازعات: 79/ 30] ومعناها مع ذلك.
(ب) الانقلاب في المدلول إلى الضد:
فقد ينقلب معنى وراء إلى قدام، في قوله تعالى: (مِنْ وَرَائِهِمُ جَهَنَّمُ ([الجاثية: 45/ 10] مجازه قدامه وأمامه، يقال إن الموت من ورائك أي قدامك.
(ج) التغير في الصيغة:
بزيادة في الحروف كأن يكون مدلول مَطَرَ غير مدلول أَمْطَرَ في تفسيره لقوله تعالى: (فأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجَرَةً مِنَ السَّماءِ ([الأنفال: 8/ 32] مجازه أن كل شيء من العذاب فهو أمطرت بالألف، وإن كان من الرحمة فهو مَطَرت.
(د) التغير في مدلول الاستفهام:
ففي قوله تعالى: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ([البقرة: 2/ 30] جاءت على لفظ الاستفهام، والملائكة لم تستفهم ربها، وقد قال تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ (ولكن معناها الإيجاب أي أنك ستفعل، وقال جرير فأوجب ولم يستفهم:
أَلَسْتُم خيرَ مَنْ رَكِبَ المطَايَا * وأنْدى العَالمينَ بُطُونَ رَاحِ
ويهتم أبو عبيدة في مواضع كثيرة بصيغة أفعل في القرآن، مثل قوله تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه ([الروم: 30/ 27] مجازه مجاز ذلك هيِّن عليه، لأن أفعل يوضع موضع الفاعل. قال:
لعَمْرُك ما أَدري وإِنِّي لأوْجَلُ *على أَيِّنا تَأْتي المنيَّةُ أَوَّلُ
إني لأوجل أي وجل، وفي الأذان: الله أكبر، الله أكبر. وهكذا قد تتغير صيغة التفضيل فتصبح مجرد فاعل.
2 - ويتحول المعنى تحولاً بلاغياً:
¥