هذا بعض ما تنطوي عليه مرامي كلمة مجاز في كتاب أبي عبيدة، وهذه المعاني السابقة غالبة على غيرها من الاستعمالات، وخاصة استعمالها في معنى -تفسير- وقد تأتي بهذا المعنى في أحوال غير قليلة، كما يفسر قوله تعالى: (وَ لاَطَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالَكُمْ ([الأنعام: 6/ 38] قال: مجازه إلا أجناس، وقوله تعالى: (ما فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ([الأنعام: 6/ 38] قال: مجازه ما تركنا ولا ضيعنا (7).
وخلاصة القول في كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة، أنه كان خطوة في سبيل الكلام في طرق القول، أو (المجاز) بمعناه العام، وقد حاول أبو عبيدة أن يكشف عن بعض ما جاء من ذلك في أسلوب القرآن، مع مقارنته بما جاء في الأدب العربي، وساعد عليه محصوله اللغوي والأدبي الغزير فيهما.
وقد حددت هذه المحاولة؛ القول في بعض المسائل والمشكلات في أسلوب القرآن، والتي صارت فيما بعد مسائل البيان العربي عامة، كما أنها كانت ذات قيمة لغوية كبيرة أفادت بحوث اللغة.
وختاماً، يقول الجاحظ (8): (لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلم من أبي عبيدة) (9)، وكان له إلى هذه السعة في العلم نفاذ وعمق يتمثلان في قولهم عنه: (إنه كان ما يفتش عن علم من العلوم إلا كان من يفتشه عنه يظن أنه لا يحسن غيره، ولا يقوم بشيء أجود من قيامه به) (10).
وقد عاصر أبو عبيدة من علماء اللغة الأصمعي (11)، وأبا زيد (12) وكان بينهم من الخلاف مايكون بين المعاصرين، ولكن خلافهم هذا لم يصل إلى الريبة في الثقة بما يرويه كل واحد منهم، أو إلى الأنفة من الاعتراف بالحق لصاحبه حين يبدو وجه هذا الحق. ذلك لأنهم لم يكونوا يختلقون ولا يتزيدون. وكان الرواة والآخذون عنهم يرجحون أبا عبيدة إذا قاسوه بصاحبيه أو أحدهما (13). ولعل ملحظهم في هذا التفضيل أن أبا عبيدة كان له- إلى غزارة العلم -مرونة في فهم اللغة عند الأصمعي وأبي زيد، على أن أبا عبيدة وأبا زيد كانا يتفقان في كثير من مسائل اللغة (14).
الحواشي:
(1) مجاز القرآن أبو عبيدة:، تحقيق: د. محمد فؤاد سزكين، مؤسسة الرسالة، ط (2) بيروت 1981م، 1/المقدمة.
(2) أبو عبيدة (110 - 209هـ/728 - 824م) معمر بن المثنى. في مقدمة العلماء الرواد في البصرة، عاصر الخليل والأصمعي وأبا زيد الأنصاري، واسع الاطلاع على أخبار العرب وأيامهم.
(3) مجاز القرآن، 1/المقدمة.
(4) المرجع السابق، 1/ 2.
(5) أثر القرآن في تطور النقد العربي د. محمد زغلول سلام:، دار المعارف بمصر ط (2)، القاهرة 1961/، ص39.
(6) مجاز القرآن، 1/ 71.
(7) المرجع السابق، 1/ 82.
(8) الجاحظ (159 - 255هـ/775 - 868م) أبو عثمان، عمرو بن بحر. قمة في البيان والنثر الفني، وإمام في التأليف، ورأس من فرقة المعتزلة، ترك نحواً من 360 كتاباً.
(9) البيان والتبيين الجاحظ:، تحقيق: عبد السلام هارون، دار المعارف بمصر، ط (1) القاهرة 1950م، 1/ 347
(10) النوادر أبو زيد الأنصاري:، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1894م، ص51.
(11) الأصمعي: (122 - 231هـ/739 - 831م) أبو سعيد، عبد الملك بن قريب .. بن أصمع، علم بصري فذ في اللغة والرواية قوي الحافظة لأنساب العرب وأيامها وأخبارها وأرجازها، وله كتاب الأصمعيات في الشعر القديم.
(12) الأنصاري (119 - 215هـ/737 - 830م) أبو زيد، سعيد بن أوس بن ثابت. من أئمة البصريين في النحو واللغة والرواية، في منزلة الأصمعي وأبي عبيدة، موثق في علمه وروايته، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء.
(13) المزهر في علوم اللغة وأنواعها السيوطي:، تحقيق: محمد أحمد جاد المولى وعلي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة، 2/ 402.
(14) جمهرة اللغة ابن دريد:، ط حيدر آباد 1345هـ، 3/ 434.
ـ[مساعد الطيار]ــــــــ[09 Jul 2004, 05:31 م]ـ
من باب الفائدة:
الرواية المذكورة في قصة تأليف كتاب المجاز التي أشار إليها الكاتب فيها غرابة، وتكاد ألا تكون صحيحة، ومما يستأنس به في ردِّها أمران:
أولاً: أن أبا عبيدة أبان عن سبب تأليفه للمجاز، وهما سببان:
الأول: أن الصحابة ومن بعدهم عرب يفهمون الخطاب العربي، فلم يحتاجوا إلى أن يسألوا عنه، بخلاف من جاء بعدهم ممن هو في حاجة إلى معرفة هذا الخطاب العربي.
الثاني: الرد على من يزعم أن في القرآن غير اللفظ العربي (المعرَّب).
وهذان السببان قد نصَّ عليهما نصًّا واضحًا في مقدمة المجاز.
ثانيًا:أنه لم يذكر هذا السبب في مقدمة تفسيره، كما لم يذكر تفسيرًا لهذه الآية أصلاً، فكيف يغفل عن تفسير آية كانت هي سبب تأليف الكتاب؟!
وهذا الكتاب ـ مع ما لاقى من معارضة ـ نفيس جدًّا في بابه، وهو من أهمِّ كتب الشواهد اللغوية في التفسير، ولإن كان يجوز القول في أن الناس عيال على فلان في كذا، فالمفسرون واللغويون عيال على أبي عبيدة في باب الشاهد اللغوي الشعري.
والكتاب بحاجة إلى تحقيق جديد، ودراسة علمية مستقصية لجوانب إفادة هذا الكتاب، ومنزلته في التأليف في هذا الفنِّ، ودراسة عصره اللغوي وما لأهلها من اللغويين من كتابات في غريب القرآن ومعانيه، وأثره فيمن جاء بعده، إلى غير ذلك.
والله الموفق.
¥