تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم، توبيخُه إياهم، ولومه لهم على ما ركِبوا من معاصي الله والكفر به، كما يقال:"إن فلانًا ليُهْزَأ منه منذ اليوم، ويُسخر منه"، يُراد به توبيخُ الناس إياه ولومهم له، أو إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم، كما قال عَبِيد بن الأبرص:

سَائِلْ بِنَا حُجْرَ ابْنَ أُمِّ قَطَامِ، إذْ ... ظَلَّتْ بِهِ السُّمْرُ النَّوَاهِلُ تَلْعَبُ

فزعموا أن السُّمر -وهي القَنَا- لا لعب منها، ولكنها لما قتلتْهم وشرَّدتهم، جَعل ذلك مِنْ فعلها لعبًا بمن فعلت ذلك به؛ قالوا: فكذلك اسْتهزاءُ الله جل ثناؤه بمن اسْتهزأ به من أهل النفاق والكفر به: إمّا إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم، وإمّا إملاؤهُ لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتةً، أو توبيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسُّخرية.

وقال آخرون قوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) (1) [سورة النساء: 142] على الجواب، كقول الرجل لمن كان يَخْدَعه إذا ظفر به:"أنا الذي خدعتُك"، ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. قالوا: وكذلك قوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [سورة آل عمران: 54]، و"الله يستهزئ بهم"، على الجواب. والله لا يكونُ منه المكرُ ولا الهُزْء، والمعنى أن المكرَ والهُزْءَ حاق بهم.

وقال آخرون: قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)، وقوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) [سورة النساء: 142]، وقوله: (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) [سورة التوبة: 79]، (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [سورة التوبة: 67]، وما أشبه ذلك، إخبارٌ من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبةَ الخداع. فأخرج خبرَه عن جزائه إياهم وعقابه لهم، مُخْرَج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقُّوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان. كما قال جل ثناؤه: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [سورة الشورى: 40]، ومعلومٌ أن الأولى من صاحبها سيئة، إذْ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية، وأن الأخرى عَدلٌ، لأنها من الله جزاءٌ للعاصي على المعصية، فهما -وإن اتفق لفظاهما- مختلفا المعنى. وكذلك قوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [سورة البقرة: 194]، فالعدوان الأول ظلم، والثاني جزاءٌ لا ظلم، بل هو عدل، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه، وإن وافق لفظه لفظ الأول.

وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك، مما هو خبرٌ عن مكر الله جل وعزّ بقومٍ، وما أشبه ذلك.

وقال آخرون: إنّ معنى ذلك: أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما نُظهر لهم - من قولنا لهم: صدقنا بمحمد عليه السلام وما جاء به - مستهزئون. يعنون: إنا نُظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حَقٌّ ولا هدًى. قالوا: وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء، فأخبر الله أنه"يستهزئ بهم"، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلافَ الذي لهم عنده في الآخرة، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم.

والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهارُ المستهزِئ للمستهزَإ به من القول والفعل ما يُرضيه ظاهرًا، وهو بذلك من قِيله وفِعْله به مُورِثه مَساءة باطنًا. وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر.

فإذا كان ذلك كذلك = وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام - بما أظهروا بألسنتهم، من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، المُدْخِلِهم في عداد من يشمله اسمُ الإسلام، وإن كانوا لغير ذلك مستبطنين - أحكامَ المسلمين المصدِّقين إقرارَهم بألسنتهم بذلك، بضمائر قلوبِهم، وصحائح عزائمهم، وحميدِ أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم - معَ علم الله عز وجل بكذبهم، واطلاعِه على خُبث اعتقادهم، وشكِّهم فيما ادَّعوا بألسنتهم أنهم به مصدِّقون، حتى ظنُّوا في الآخرة إذْ حشروا في عِداد من كانوا في عِدادهم في الدنيا، أنَّهم وارِدُون موْرِدَهم. وداخلون مدخلهم. والله جل جلاله - مع إظهاره ما قد أظهر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير