قيل له: فإن الخبر عن مجيء الرب تبارك وتعالى، والملك: خبر واحد؛ فزعمت في الخبر عن الرب تعالى ذكره أنه يجيء أمره، لا هو؛ وزعمت في الملك أنه يجيء بنفسه، لا أمره؛ فما الفرق بينك وبين من خالفك في ذلك فقال: بل الرب هو الذي يجيء، فأما الملك فإنما يجيء أمره، لا هو بنفسه؟!
فإن زعم أن الفرق بينه وبينه أن الملك خلق لله، جائز عليه الزوال والانتقال، وليس ذلك على الله جائزا؛
قيل له: وما برهانك على أن معنى المجيء والهبوط والنزول، هو النقلة والزوال، ولا سيما على قول من يزعم منكم أن الله تقدست أسماؤه، لا يخلو منه مكان؟!
وكيف لم يجز عندكم أن يكون معنى المجيء الهبوط والنزول، بخلاف ما عقلتم من النقلة والزوال من القديم الصانع، وقد جاز عندكم أن يكون معنى العالم، والقادر، منه بخلاف ما عقلتم ممن سواه؛ بأنه عالم لا علم له، وقادر لا قدرة له؟
وإن كنتم لم تعقلوا عالما إلا له علم، وقادرا إلا له قدرة [يعني: في الشاهد، ومع ذلك أثبتوا في الغائب: عالما، لا علم له .. ]، فما تنكرون أن يكون جائيا لا مجيء له، وهابطا نازلا، لا هبوط له، ولا نزول له، ويكون معنى ذلك: وجوده هناك، مع زعمكم أنه لا يخلو منه مكان؟!
فإن قال لنا منهم قائل: فما أنت قائل في معنى ذلك؟
قيل له: معنى ذلك: ما دل عليه ظاهر الخبر، وليس عندنا للخبر إلا التسليم والإيمان به، فنقول: يجيء ربنا جل جلاله يوم القيامة، والملك صفا صفا، ويهبط إلى السماء الدنيا، وينزل إليها في كل ليلة، ولا نقول: معنى ذلك ينزل أمره؛ بل نقول: أمره نازل إليها في كل لحظة وساعة، وإلى غيرها من جميع خلقه الموجودين، ما دامت موجودة، ولا تخلو ساعة من أمره، فلا وجه لخصوص نزول أمره إليها وقتا دون وقت، ما دامت موجودة باقية.
وكالذي قلنا في هذه المعاني من القول: الصواب من القيل في كل ما ورد به الخبر في صفات الله عز وجل، وأسمائه تعالى ذكره، بنحو ما ذكرناه). انتهى كلامه رحمه الله من:
[التبصير في معالم الدين (142 - 147)].
أبا عبيدة، أتراك قرأت هذا الكلام ـ بالله عليك ـ وأنت يقظ، عاقل، تخشى الله، وتتأثم من الكذب والبهتان؟!!
إن كنت لم تفعل، فدونك كلامه، نصا صرفا، من غير زيادة ولا نقصان، وأشعر قلبك الخوف من الله وأنت تقرؤه، ودع التكذب والتهاويل، ودع المذاهب والتقليد، وكن شجاعا أبا عبيدة، ولا يقعدك عن طلب الحق، والتشبث به: عادة، ولا رسوم، ولا قول قائل، أوخوف على رزق، من مال أو جاه، أو حياة؛ فكل شيء عنده بمقدار!!
هل كفاك النص السابق للإمام الطبري، يا أبا عبيدة؟!
حسنا، يا صاحبي، إن كان قد بقي في نفسك حزازه، أو في صدرك لجاجة، فخذ هذا النص من معدنه، خالصا من كل شيء، إلا كلام صاحبه أبي جعفر، ابن جرير:
(القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}:
قال أبو جعفر: اختُلف في صفة استهزاءِ الله جلّ جلاله، الذي ذَكر أنه فاعله بالمنافقين، الذين وَصَف صفتهم:
فقال بعضهم: استهزاؤه بهم، كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعلٌ بهم يوم القيامة في قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى) [سورة الحديد: 13، 14]. الآية. وكالذي أخبرنا أنَّه فَعَل بالكفار بقوله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) [سورة آل عمران: 178]. فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جلّ وعزّ وسخريتِه ومكرِه وخديعتِه للمنافقين وأهل الشرك به - عند قائلي هذا القول، ومتأوّلي هذا التأويل.
¥