تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولا شيء أدلّ على غزارة معارفه وفنونه وفصاحة لغته، ودقة منهجه مما تركه لنا من آثار سواء كانت تأليفاً أم تحقيقاً، أم مقالات كما نجده في رسالتيه المشار إليهما أو في تحقيقه لكتاب (اللامات) لأبي الحسن بن فارس، أو (الدلائل في غريب الحديث) للسرقسطي أو غيرهما؛ إذا أعرضنا عن الإشارة إلى ما كتبه من مقالات في مجلة (مجمّع اللغة العربية بدمشق) وغيرها مثل بحثه القيّم (نظرات في شعر بشار بن برد)، فضلاً عن أثره العظيم في الدارسين على يديه من طلبة الماجستير والدكتوراه ممّن أشرف على رسائلهم العلمية التي زادت على المئة، أو ممّن ناقشتهم فيها ... وكان في الحالتين نِعمَ المشرف ونعم المشارك، إذ زودهم بزاد معرفي ومنهجي لا يقدّر بثمن؛ فصدق فيه قول عروة بن الورد:

أُقَسِّمُ جسمي في جسوم كثيرة = وأَحسُو قَرَاح الماء والماء بارد

لقد دلّنا أستاذنا الجليل على علم غزير، ودراية كبرى في سبر أغوار المعاني، وتصيّد شوارد الكلام، وفهم دقيق للثقافة، واضطلاع واسع بالمناهج النقدية والمدارس الأدبية ... وكان في ذلك كلّه الأديب الفطن، واللغوي الحاذق، وصاحب الكلمة البعيدة الغور؛ ورجل البيان المتبحّر بأساليب البلاغة العربية، فلا غرو بعد ذلك كله أن يستحق جائزة الملك فيصل العالمية عن جدارة واقتدار في عام (1988م) مناصفة مع المرحوم الدكتور يوسف خليف.

وبعد، فإن لي تجربة خاصة مع شيخنا الفاضل تعود إلى مطلع سبعينيات القرن العشرين، وكان الشداة من طلبة العلم يترقبون دخول أستاذ مادة الأدب الأندلسي؛ وكانت مفاجأتهم عظيمة حين أطلّ عليهم رئيس الجامعة بشحمه ولحمه، وكان أنيق المنظر، نظيف الثوب، ممشوق القامة، وقوراً هادئاً ... ما جعل أحداق الطلبة تتسمّر عند هيئته، لأنهم كانوا على دراسة ـ وهم طلبة السنة الثالثة ـ بأن الدكتور الفحّام مختص بالأدب الأموي والعباسي ... وما لبث أن قدَّم لهم مصادر مادته، وأعادهم إلى الكتاب الذي قرره وهو (تاريخ الأدب الأندلسي) للمرحوم الدكتور إحسان عباس ...

وظلّ هذا الموقف يشد الطلبة إلى عالم يعترف بالفضل لغيره، حين يثبت أن الدكتور عباس هو إمام هذه المادة، وعليه نعوّل في تدريسها ... بيد أنه لم يكن لينحي معارفه وعلومه جانباً إذا أقامت وشائج كبرى بينها وبين ما كتبه الدكتور عباس، حتى جاءت في حُلَّة جديدة فكنّا ننهل منه صحة التفكير، وبهاء التعبير، وسلامة اللغة، وعمق التحليل ودقّة المنهج. لذلك كان الطلبة يصرّون على حضور محاضراته لأنهم استشعروا ـ فضلاً عن ذلك ـ في شخصه الكريم نبل الصفات وعفّة الثوب، ودماثة الخلق، وتواضع العالِم، ووضوح المنهج والسمت، وبذل العلم دون حرج أو تقتير ... كان قريباً إلى النفوس؛ إذ دخل إليها ولم يخرج منها إلى اليوم، ولاسيما أنه كان رحب الصدر، حليماً وهو يتلقى مشكلات كثير من الطلبة في مكتبه في كلية الآداب أو في رئاسة الجامعة وغيرها ...

ثم قوي جناح خرّيج قسم اللغة العربية، وقد تعلم الطيران على يدي أساتذة أفذاذ منحهم الله بلاد الشام عامّة وجامعة دمشق خاصة أمثال الأستاذ المرحوم عبد الهادي هاشم، والمرحوم الدكتور شكري فيصل والمرحوم الأستاذ عاصم البيطار، من الراحلين ـ رحمهم الله ـ وأمثال الأستاذ الدكتور عبد الحفيظ السطلي، والدكتور عبد الكريم الأشتر، والدكتور محمود الربداوي، والدكتور مازن المبارك، وغيرهم من الأحياء ـ أطال الله عمرهم ـ ...

وفي هذه المرحلة جاد الله علينا بعلامَة الشام المرحوم أحمد راتب النفاخ، وكان الصديق المبجّل عند شيخنا الفحَّام، وكان الفحَّام الصديق الصدوق له لا يُقَدِّم عليه أحداً ـ فيما أظن ـ ... ومن فضل الله عليّ أنني كنت من طلبة علامة الشام النفاخ في قسم اللغة العربية، والمتردد على مجالس علمه في بيته الذي كان مورداً عذباً لناهلي العلم ... وقد أصبحت المواصلة مع المرحوم ذات طعم خاص على اعتبار ما نراه من أستاذنا العالم الفحَّام من توقير للصديق؛ وإيثار له، وإكبار لمفاهيم الصداقة ... ثم تجسَّد هذا الوفاء والخلق النبيل في مواقفه المتعددة معه، ومع بقية زملائه الكرام من رجال العلم والثقافة ممن ذكرناهم أو ممن لا يتسع المجال لذكرهم ...

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير