واستعمال المكسورة نفسها في لغتنا اليوم قد فارق دلالة التوكيد فشاع استعمالها في جمل لا تحتاج إلى توكيد. فإذا كان هذا هو شأن المكسورة فإن المفتوحة أبعد من التوكيد. وينبغي أن ننظر إليهما على أنهما حرفان مختلفان. وأما من يحتج بأن المفتوحة تكسر إن فصلت بجملتها عما قبلها فتقول في أعجبني أنّ زيدًا قادم: إنّ زيدًا قادم. وهذا القول غير لازم لأن الجملتين قبل ربط بعضهما ببعض هما: أعجبني/ زيد قادم. فلمّا أردنا أن نجعل (زيد قادم) فاعلا للفعل (أعجب) أدخلنا (أن) للربط وتحويل الجملة إلى مصدر. ويؤيد ما أذهب إليه أنه إن جاز أن تكون الجملة المؤكدة بإن فاعلا ومفعولا كما زعموا أفلا يجوز أن تكون الجملة المثبتة غير المؤكدة فاعلا أو مفعولا؟ بل أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وهو أن الجملة المؤكدة بإنّ ينبغي تجنب تغييرها فإذا أردت جعلها مفعولاً به مثلاً قلت: عرفت إنّ زيدًا قادم. أي: عرفت هذا الأمر. ولذلك قد ترد إن مكسورة ومفتوحة مع فعل واحد ومن شواهد هذا الاستعمال قوله تعالى:?وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ? [التوبة:107] بكسر إنّ، وقوله تعالى: ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ? [آل عمران:18] بفتحها. قال المرادي:"ويجوز الفتح والكسر في كل موضع، يجوز فيه تأويلها بمصدر وعدم تأويلها به".
أستاذي أبا أوس: أستأذنك في إضافة كلامٍ لأبي حيَّان الأندلسي أنقله من كتابه (التذييل والتكميل) يتعلَّق بهذا الموضوع عسى أنْ يكون ذا فائدة.
يقول: " وذكروا أنَّ (أنَّ) المفتوحة أيضًا معناها التوكيد. ولا يظهر لي هذا المعنى لأنَّها ينسبك منها مصدر، ولو صرَّحتَ بالمصدر المنسبك منها لم يكن ثَمَّ في النسبة توكيد، لو قلت: في بلغني أنَّكَ منطلقٌ: بلغني انطلاقُك، لم يكن فيه توكيد البتة.
وفي (البسيط): " قال النحويون: (أنَّ) المفتوحة تكون للتوكيد، وتفيد السبك. قلت: وعلى هذا إشكال، وهو أنَّها إذا كانت للتأكيد كان معناها تحقيق الخبر وتأكيد النسبة، وإذا كانت سابكة كان في ذلك إبطال الخبرية لأنَّ سبكها يبطل الخبرية؛ لأنَّ في السبك عدم قبول الصدق والكذب.
والجواب: أنَّ المفتوحة أصلها الكسر، والمؤكِّدة هي المكسورة ليس إلا، لكنَّ فتحها يكون لصيرورتها في تأويل المفرد المؤكَّد ثبوته، فإذا قلت: إنَّ زيدًا منطلقٌ، ثمَّ قلت: علمتُ أنَّ زيدًا منطلقٌ، فمعناه: علمت أنَّه المؤكَّد الثابت، فعلى هذا لا تكون إلا علامة على السبك لا للتأكيد والسبك " انتهى ... "
(التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل 5/ 8 - 9)
والله أعلم
ـ[أ. د. أبو أوس الشمسان]ــــــــ[28 - 09 - 2008, 06:25 ص]ـ
أشكرك أخي حرف على ما تفضلت به، وهو نص نفيس نافع في هذا السياق، فبوركت، ونفعنا الله بعلمك.
تقبل تحياتي وكل عام وأنتم بخير.
ـ[خالد مغربي]ــــــــ[28 - 09 - 2008, 07:15 ص]ـ
حقا ..
نص نفيس يدعم رأي أستاذنا أبي أوس ..
لك الشكر أخي حرف
ـ[الأحمر]ــــــــ[28 - 09 - 2008, 04:16 م]ـ
أخي الكريم
أعجبني إنّ زيدًا لقائم (لا أعرف أنها تستعمل ولا أعرف معناها)
أما الجملة (أعجبني لزيد قائم) فلا أعلم أنها صحيحة نحوًا ومعنى.
أستاذي ابا أوس الفاضل
ألا يمكن أن تكون الجملتان فاعلا على الحكاية؟
ـ[د. بهاء الدين عبد الرحمن]ــــــــ[28 - 09 - 2008, 04:17 م]ـ
السلام عليكم
اجتمع إلى شواغلي انقطاع خدمة الاتصال بالشبكة لمدة أسبوع وكنت قد أعددت للمشاركة في هذه النافذة، ولكن لم أطبعه بعد، وأود هنا أن أنبه إلى أمر غاب عمن أنكر اجتماع التأكيد مع السبك، وهو أن التقدير في نحو: أعجبني أن زيدا مجتهد، هو في الحقيقة: أعجبني تأكد اجتهاد زيد، وليس أعجبني اجتهاد زيد، وإنما لم يذكر النحاة هذا الأمر لوضوح التأكيد في المصدر المنسبك من أن ومعموليها، فلا ينكر أحد أن قولنا: يعجبني أن زيدا مجتهد، يختلف في المعنى عن: يعجبني اجتهاد زيد، ففي الأول تأكيد لثبوت نسبة الاجتهاد لزيد، ولا تأكيد في الثاني لثبوت هذه النسبة، ولذلك خص صاحب البسيط أن (أنّ) علامة لسبك (إنّ) مع معموليها، أي أن التأكيد الملحوظ في (يعجبني أن زيدا مجتهد) هو لـ (إن) المكسورة، فلما أريد سبك مصدر من العبارة المؤكدة (إنّ زيدا مجتهد) جيء بأن المفتوحة، وهذا تفسير قوله:
والجواب: أنَّ المفتوحة أصلها الكسر، والمؤكِّدة هي المكسورة ليس إلا، لكنَّ فتحها يكون لصيرورتها في تأويل المفرد المؤكَّد ثبوته، فإذا قلت: إنَّ زيدًا منطلقٌ، ثمَّ قلت: علمتُ أنَّ زيدًا منطلقٌ، فمعناه: علمت أنَّه المؤكَّد الثابت، فعلى هذا لا تكون إلا علامة على السبك لا للتأكيد والسبك " انتهى ... "
فقوله: (لكنَّ فتحها يكون لصيرورتها في تأويل المفرد المؤكَّد ثبوته) يؤكد أن التقدير الدقيق في نحو: علمت أن زيدا منطلق، هو: علمت تأكيد ثبوت الانطلاق لزيد واقعا. وليس كما يتبادر إلى الذهن أنه لا فرق بين المصدر المنسبك هذا والمصدر الصريح.
لكن يشكل على صاحب البسيط أنه يجعل (أن) للسبك فقط، ويجعل التأكيد الملحوظ لـ (إن) التي هي في نظره أصل لـ (أن)، لذلك كان عليه أن يقول: إن فتح الهمزة فقط هو علامة للسبك وتبقى أن كأصلها دالة على التوكيد أيضا، فلا تعارض بين دلالتها على السبك ودلالتهاعلى التوكيد على ما بينا، هذا ما أردت بيانه الآن، ولي عودة للموضوع إن شاء الله.
¥