السؤال الذي يحدد إجابات الأسئلة السابقة كلها هو, هل الفاعل في الجملة الثانية معلوم أو هو مجهول مثلما هو في الجملة الأولى؟ رغم أن الجواب يبدو بسيطا وبديهيا فقول المتكلم "أعرف" يعني أن الفاعل للمجيء معلوم, إلا أن النحو لا يعطينا أي معلومة عن هذا الذي جاء. ففاعل المجيء معلوم سياقا مجهول نحوا. فمن ترى هذا الفاعل؟ إذا حللنا الجملة الثانية وجدنا أنها تطابق صيغة أخرى هي:
أعرف الذي جاء.
وكلتا الجملتين تتكون من جملة كبرى وجملة صغرى متعلقة بها, الجملة الكبرى هي "أعرف + مفعول به" والجملة الصغرى هي "من جاء \ الذي جاء = مفعول به للجملة الكبرى" ويربط بين الكبرى والصغرى حرف وصل هو من\الذي. إن بناء الجملة الوصلية هو نتيجة عملية تحويلية يتحول فيها العنصر الذي سيحذف من الجملة الصغرى إلى حرف وصل يتصدرها ليربطها بالجملة الكبرى.
تبسيط:
أعرف + جاء شخص = أعرف (الشخص) الذي جاء\ أعرف من جاء.
أعرف + قابلتَ شخصا = أعرف (الشخص) الذي قابلتَـ (ـه) \ أعرف من قابلْتَـ (ـه).
ووجود ضمير الاشتغال لا يغير من فكرة التركيب شيئا.
وربما من سوء حظ العربية أن حروف الوصل فيها لا تتغير بتغير إعراب العنصر الذي تقوم مقامه, كما هو الشأن في الألمانية مثلا حيث يأخذ حرف الوصل علامة إعراب العنصر الذي يقوم مقامه. ولكل لغة نظامها الخاص.
الفاعل في الجملة الصغرى غير مذكور بذاته بل مشار إليه بحرف وصل يقوم مقامه, وهذا هو الحال مع الجملة الاستفهامية. إذا قلنا أن الجملة الاستفهامية فاعلها محذوف مثلا, فإن الفاعل في الجملة الوصلية أعلاه كذلك محذوف, فكيف نعرب الوصلية؟ هل نقول كما قلت أستاذي الفاضل أن الفاعل في الوصلية محذوف وأداة الوصل لا محل لها من الإعراب؟ وهل يصح هذا في تركيب الجملة الوصلية؟ يجب التفريق بين الفاعل التركيبي والفاعل المعنوي أستاذي الفاضل وأنت أدرى بهذا مني. لإن إسناد فعل الجملة الوصلية إلى مجهول هو كبنائها إلى المجهول أو جعلها استفهامية في حين أنها لا هذا ولا ذاك. إن قولنا بأن حرف الوصل أو اسم الاستفهام قائم مقام عنصر محذوف في الجملة هو إسناد تركيبي وليس معنويا, أي أنا ربطنا فعل الجملة الاستفهامية والوصلية بعنصر في الجملة يتصل به اتصالا تركيبيا بدليل أن تغيير حرف الوصل مثلا يغير من تصريف الفعل:
أعرف الذين جاؤوا.
وهذا يظهر في حروف الوصل من فئة "الذي" ولا يظهر على فئة "من", لأن الأخيرة جامدة إعرابا وعددا, أما الثانية فهي جامدة إعرابا (رغم ورود صيغ مثل الَّذُونَ) ومتصرفة عددا. ولذلك فإن فصل حرف الوصل عن الفعل رغم العلاقة القائمة بينهما أمر غير منطقي تركيبيا. وكذلك الشأن في الجملة الاستفهامية والجملة الشرطية التي بناؤها في العربية مثل بناء الأخريين:
من يفعل خيرا يلق خيرا.
ففاعل شطر الجملة الشرطية الأول غير معروف, وهو مطلق, فهل نقول بأنه محذوف؟ إن قولنا أنه غير معروف مبني على عدم الذكر الصريح له لا على غيابه التركيبي, كما ذكرنا أعلاه. فالحضور التركيبي للفاعل هو في الحرف "من" الذي يقوم مقام الفاعل بالإطلاق له, أي أنه "كل شخص يفعل خيرا", وفاعل الشطر الثاني هو – حسب التحليل اللساني – الشطر الأول برمته.
لذلك لا بد أن نفرق بين عدم الذكر الصريح والغياب التركيبي, فالغياب التركيبي لا يعني مثلا أن الفاعل مجهول لأنه ربما مضمر وهذا معروف في العربية, وعدم الذكر الصريح لا يعني أن الفاعل بصفته وحدة تركيبية غائب عن الجملة. وهذا لا يكون إلا بالتفريق بين المستوى المعنوي والمستوى التركيبي المجرد من المعاني الذي يتعامل مع العلائق بين عناصر الجملة بغض النظر عما يمكن للمعاني أن تثمره. وهذا التفريق هو الذي تسميه اللسانيات التفريق بين البنية السطحية والبنية العميقة, ولا أريد أن أسترسل في هذا لأني أعرف حساسية بعض الإخوة تجاه اللسانيات.
لي عودة حسب ردك أستاذي الفاضل, واعذر لي تطاولي على مقامك العلمي.
ـ[أ. د. أبو أوس الشمسان]ــــــــ[09 - 10 - 2008, 10:01 ص]ـ
أخي الحبيب ضاد
لا أزعم أني فهمت حق الفهم هذا الشرح، ولكني سألخص ردي في أمور:
1 - أحسبك تسوي بين الجملة الاستفهامية والجملة الخبرية، وهذه مسألة خلافية بيننا فكلامي مؤسس على الاختلاف التركيبي بين الجملتين.
2 - في الجملة (أعرف من جاء) مثل أعرف الذي جاء، كما قررت أنت ومعنى ذلك أن الجملة في أصلها: (أعرف الشخص الذي جاء) فالفاعل في (جاء) ضمير عائد إلى الشخص، فلا حذف هنا ولا مجهول، والفرق بين (من) و (الذي) أن (من) ضمير و (الذي) صفة.
3 - أنت أخي الكريم ما زلت تريد تعميم نمط الجملة الخبرية في تحليل الجملة الاستفهامية، على الرغم من قولك في موضع سابق إن في العربية أنماط تركيبية يعسر تفسيرها كالتعجب وغيرها، وأنا أضيف إن من تراكيب العربية ما يختلف عن تركيب الجملة الخبرية. هل تريد أن تعرب مع النحويين: (من جاء؟) من مبتدأ وجاء فعل ماض والفاعل ضمير مستتر يعود إلى من؟ أليس الهدف من الفاعل أن يذكر ليعلم من أحدث الفعل؟ تقول لي الصناعة التركيبية ويقول النحويون الصناعة النحوية، وأقول إن هذا لا يقنعني ولذلك قلت ما قلت.
تحياتي لك وتقديري لمعاودة الكلام لأن ذلك دليل على الاهتمام والتفاعل المثمر وهو المطلوب وإن لم نصل إلى شيء.
¥