ـ إن انفراد الصحابي بالحديث لا يؤثر في صحة الحديث، وجماهير علماء الأمة لا يشترطون تعدد رواة الحديث، وفي هذا المعنى يقول السيوطي في ألفيته:
وليس شرطًا عددٌ ومن شرط
رواية اثنين فصاعدًا غلط
أي: ليس تعدد الرواة شرطًا في صحة الحديث ([15]).
وقال الحافظ أبو محمد بن حزم: إذا روى العدل عن مثله خبرًا، حتى يبلغ به النبي r فقد وجب الأخذ به ولزمته طاعته والقطع به، سواء روي من طريق أخرى، أو لم يروَ إلا من تلك الطريق ([16]).
وقال الحافظ ابن القيم: ولا تُردُّ أحاديث الصحابة، وأحاديث الأئمة الثقات بالتفرد، فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة، ولم يروه غيره، وقبلته الأمة كلها، ولا نعلم أحدًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع، ومن تبعهم في ذلك، أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء، وقد تفرد الزهري بنحو تسعين حديثًا لم يروها غيره، وعملت بها الأمة، ولم يردوها بتفرده ([17]).
فإذا كان تفرد مطلق الصحابي بحديث ليس بعلة يرد بها، فكيف بما تفرد به أحفظهم باتفاق، وهو أبو هريرة؟! ([18])
قال السيوطي:
والمكثرون في رواية الأثر
أبو هريرة يليه ابن عمر ([19])
أما عن كون المنفرد بالحديث أبو هريرة وغمزه بتلقي الحديث من كعب الأحبار الإسرائيلي مع كونه يروي بالمعنى وليس هو من الفقهاء.
فأما الجواب عن تلقيه من كعب الأحبار فمن وجوه:
الأول: أنه لم يثبت قط عن أبي هريرة أنه جعل رواية إسرائيلية ونسبها إلى النبي r على أنها حديث نبوي، ولقد وجد الصحابة والتابعون في أبي هريرة رضي الله عنها صحابيًّا، حافظًا، محققًا، مدققًا، إذا ناقشه أحد ثبت أنه الحافظ، وإذا روجع في مسألة ثبت أنه الراسخ، ولم يجربوا عليه خطأ ولا كذبًا، وإنما وجدوا فيه عكس ذلك، يتحرى ويحتاط، يعظم حديث رسول الله r كل الإعظام ([20]).
الثاني: أن الصحابة ـ وعلى رأسهم أبو هريرة ـ مجمعون على الحذر من رويات أهل الكتاب، بل لقد بلغ الأمر بالصحابة أنهم كانوا إذا سألوا أهل الكتاب عن شيء فأجابوا عنه خطأ ردوا عليهم خطأهم، وبينوا لهم وجه الصواب فيه ([21]).
الثالث: أن جمهور المحدثين مجمعون على أن كعب الأحبار من الرواة الثقات، ولم يعلم عليه كذب قط، فقال الذهبي: حسن الإسلام، مدين الديانة، من نبلاء العلماء ([22]).
أما غمزه بعدم الفقه: فيكفيه أن حفاظ الأمة ـ منهم ابن حزم وابن القيم ـ لما انتصبوا لترتيب أهل الفتوى جعلوا أبا هريرة مساويًا للخليفتين أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما؛ في الاندراج في الدرجة الوسطى، وهي الطبقة الثانية عندهم ([23]).
وأما كون الحديث لم يأت في الصحيحين إلا من طريق عبد الرزاق وهو ملموز بالتشيع، وقد اختلط في أواخر عمره، فالجواب عن ذلك:
أن الحافظ في مقدمة الفتح قد أتى في ترجمة عبد الرزاق بما لا يدع مجالًا لطاعن في أن يرد روايته بشبهة تافهة، فقال عنه: أحد الحفاظ الأثبات، صاحب التصانيف، وثقه الأئمة كلهم، إلا العباس بن عبد العظيم الغبري وحده، فتكلم بكلام أفرط فيه، ولم يوافقه عليه أحد، وقد قال أبو زرعة الدمشقي: قيل لأحمد: من أثبت في ابن جريج، عبد الرزاق أو أحمد بن أبي بكر البرساني؟ فقال: عبد الرزاق.
وقال عباس الدوري عن ابن معين: كان عبد الرزاق أثبت في حديث معمر من هشام بن يوسف، وقال يعقوب بن أبي شيبة عن علي بن المديني: قال لي هشام بن يوسف: كان عبد الرزاق أعلمنا وأحفظنا. وقال ابن عدي: رحل إليه ثقات المسلمين، إلا أنهم نسبوه إلى التشيع، وهو أعظم ما ذموه به، أما الصدق فأرجو أن يكون لا بأس به.
قلت (ابن حجر): احتج به الشيخان في جملة من حديث من سمع قبل الاختلاط سمع منه أحمد بن شبويه فيما حكى الأثرم عن أحمد وإسحاق الديري، وطائفة من شيوخ أبي عوانة، والطبراني ممن تأخر إلى قرب الثمانين ومائتين ([24]).
¥