فكل منصف يرى أن عبد الرزاق من الحفاظ الأثبات، وأنه موثق عند الأئمة كلهم إلا عباس العنبري الذي جازف في الطعن على عبد الرزاق بما لم يوافقه عليه أحد، وأن ثقات الناس رحلوا إليه، وما نسب إليه من التشيع لا يطعن في عدالته ولا يخرجه عن الصدق، وكونه إن تغير بعد عماه، فالشيخان (البخاري ومسلم) لم يحتجا إلا بالمروي عنه قبل الاختلاط، وأنهما ـ وبقية الستة الذين اتفقوا على الاحتجاج به ـ لم يحتجوا به إلا لما ثبت عندهم وعند الجمهور من كمال حفظه وثقته إلى وقت تغيره، وأن الشيخين لم يحتجا إلا بما رواه الثقات عنه قبل التغير. في الوقت الذي نفى الإمام أحمد عنه تهمة التشيع، وهو من كبار تلاميذه ([25]).
ومع هذا كله قد حل لنا هذا الإشكال في وصف حال رواية صاحب البدعة حيث قال: " ذهب الكثير أو الأكثر إلى قبول رواية غير الداعية لبدعته، وهو أعدل المذاهب وأولاها، فإن كتب الأئمة طافحة بالرواية عن غير الدعاة من المبتدعة، وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الأصول وغيرها ([26]).
وبعد هذا كله لا شك أن كل من كانت عنده معرفة وإنصاف إذا استحضر مبلغ حفظ الشيخين (البخاري ومسلم) ومعرفتهما بعلم الحديث عند أهل المعرفة به، ثم ضم لذلك ما اتفق عليه الحفاظ الثلاثة؛ ابن الصلاح والنووي وابن حجر، من الجزم بأن جميع ما في الصحيحين من حديث الرواة الذين حدث لهم اختلاط هو من حد يثهم المروي عنهم قبل حدوث الاختلاط لهم.
فإن ذلك يلجئه إلى أن يطمئن لذلك ويجزم به، ويحكم برفض احتمال وقوع شيء من أحاديث المختلطين فيها بعد اختلاطهم، لا الحديث الذي نحن بصدده ولا غيره ([27]).
وبعد أن أثبتنا صحة الحديث ينبغي أن ننبه على أن هذه الأحاديث وغيرها من الإيمان بالغيب، وقد قدمنا أنه ثابت عن رسول الله r ورواه الثقات العدول، أئمة الإسلام والحديث، كالبخاري ومسلم، وأحمد والنسائي وغيرهم. وقبلته أمة محمد r بالقبول وآمن به الصحابة، وتلقاه الخلف عن السلف، وبناء على هذا فالواجب علينا في مثل هذه النصوص الصحيحة؛ الإيمان بها كما جاءت، وعدم تأويلها بما يخرجها عن ظاهرها لمجرد استشكالها، فمن ظهر له المعنى فذاك، وإلا فليتهم عقله وفهمه.
قد سئل أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه عن هذا الحديث في جملة من أحاديث الصفات فقال أحمد: كل هذا صحيح، وقال إسحاق: هذا صحيح ولا يدفعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي ([28]).
وقال الحافظ عبد الغني المقدسي: ونؤمن بأن ملك الموت أرسل إلى موسى u، فصكه ففقأ عينه، كما صح عن رسول الله r، ولا ينكره إلا ضال مبتدع أو ضعيف الرأي ([29]).
لذا يجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي r، وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، ونعلم أنه حق وصدق وسواء في ذلك ما عقلناه وما جهلناه، وما لم نطلع على حقيقته ومعناه.
ومع هذا فإن جزمنا وتقريرنا بصحة هذا الحديث وصدق ناقليه، لا يمنعنا من الجواب عما أثير حوله من شبهات واعتراضات، وهذا ما نوضحه في الصفحات الآتية إن شاء الله.
ثانيًا: تمثل الملك في صورة بشر غير ممتنع، وخفاء حاله على موسى جعله يدافعه على أنه غريب معتدٍ:
ثبت في الكتاب والسنة أن الملائكة يتمثلون في صور الرجال، وقد يراهم الناس ويظنون أنهم من بني آدم، كما في قصة إبراهيم u: ژ??????????????????????????????????????????? ژ ( الذاريات: 24ـ 28)، فلو علم حالهم ابتداء لما وسمهم بالنكارة ولا قدم لهم طعامًا، ولا أوجس منهم خيفة.
وقال تعالى: ژگگگ????????ںں??????ہہہہھھھھےے???????????????????? ?????????ژ (هود: 77 - 79)، وقال تعالى: ژ?????? ژ (مريم: 17).
وكذلك ما ثبت عن عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله r ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي r، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام ........ الحديث.
وفيه، قال: ثم انطلق فلبثت مليًّا، ثم قال: يا عمر أتدري من السائل. قلت: الله ورسوله أعلم. قال: إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ([30]).
فمن خلال هذه النصوص نستطيع أن نجزم بأن الملائكة قد تظهر في صورة بشر، وأن أمرهم قد يخفى على الأنبياء وأنفسهم.
¥