(وفي صحيح البخاري عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها" وفي رواية: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي)؛ فقد أخبر أنه يسمع بالحق ويبصر به). انتهى
قلت: وقد جهدت جهداً كبيراً في الوقوف على من أخرج هذه الرواية فلم أعثر إلا على رواية الحكيم الترمذي في نوادره بدون سند، فلذلك قال الإمام العلامة ابن رجب الحنبلي في كتابه (كلمة الإخلاص ص34):
(وقد قيل: إن في بعض الروايات: "فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي" والمعنى: أن محبة الله إذا استغرق بها القلب واستولت عليه لم تنبعث الجوارح إلا إلى مراضي الرب، وصارت النفس حينئذٍ مطمئنة بإرادة مولاها عن مرادها وهواها). انتهى
وقال الإمام العلامة ابن رجب أيضاً في (جامع العلوم والحكم ج2/ص580):
(فمعنى الحديث: أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عز وجل؛ فلا يسمع إلا لله، ولا يبصر إلا لله؛ أي: ما شرعه الله له، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عز وجل، مستعيناً بالله في ذلك كله.
ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح بعد قوله: "ورجله التي يمشي بها": فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولهذا قال تعالى: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} كقوله تعالى في الآية الأخرى: {قل هو الذي أنشاكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون * قل هو الذي درأكم في الأرض وإليه تحشرون}). انتهى
قلت: ومثله تماماً ما قاله الإمام العلامة ابن كثير في (التفسير ج2/ص580).
قال الإمام البيهقي في (الأربعون الصغرى) بعد روايته للحديث:
(كنت سمعه الذي يسمع به؛ معناه: حفظ جوارحه عليه عن مواقعة ما يكره.
وقد يكون معناه والله أعلم: كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع، وبصره في النظر، ويده في اللمس، ورجله في المشي). انتهى
قال شيخ الإسلام في (مجموع الفتاوى ج2/ص341):
(وهذا الحديث يحتج به أهل الوحدة، وهو حجة عليهم من وجوه كثيرة:
منها: أنه قال: "من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة" فأثبت نفسه ووليه ومعادي وليه؛ وهؤلاء ثلاثة، ثم قال: "وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه" فأثبت عبدا يتقرب إليه بالفرائض ثم بالنوافل، وأنه لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه، فإذا أحبه كان العبد يسمع به، ويبصر به، ويبطش به، ويمشي به.
وهؤلاء هو عندهم قبل أن يتقرب بالنوافل وبعده: هو عين العبد وعين غيره من المخلوقات؛ فهو بطنه وفخذه، لا يخصون ذلك بالأعضاء الأربعة المذكورة في الحديث. فالحديث مخصوص بحال مقيد؛ وهم يقولون بالإطلاق والتعميم، فأين هذا من هذا). انتهى
قال العطار في (حاشيته على جمع الجوامع ج2/ص517):
(والمراد: أن الله تعالى يتولى محبوبه في جميع أحواله، فحركاته وسكناته به تعالى، كما أن أبوي الطفل لمحبتهما له التي أسكنها الله في قلوبهما يتوليان جميع أحواله؛ فلا يأكل إلا بيد أحدهما، ولا يمشي إلا برجله، إلى غير ذلك). انتهى
قال العلامة الحكمي في (معارج القبول ج1/ص206) نقلاً عن الإمام ابن رجب في (جامع العلوم والحكم):
(وليس معنى ذلك أن يكون جوارح للعبد؛ تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا، وغنما المراد: أن من اجتهد بالتقرب إلى الله عز وجل بالفرائض ثم بالنوافل قربة إليه؛ ورقّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان؛ فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه؛ حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهداً له بعين البصيرة؛ فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره؛ فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به). انتهى
إذاً فالمعنى واحد بين الروايتين، فهذه تفسر هذه، ويبقى الحديث من غرائب ومناكير الصحيح.
وقد تركت الكلام على شواهد الحديث من روايةبعض الصحابة الكرام؛ على أنه ليس فيها هذه الزيادة التي سألت عنها رحمك الله.
اكتفي بهذا القدر، ولك مني خالص التقدير وفائق الاحترام،
وأسأل الله أن يكون الأمر قد استبان لك ووضح.
وصلى الله على نبينا ورسولنا محمد