لما وقعت الحرب بين مصر و الحبشة أيام الخديوي إسماعيل, و توالت على مصر الهزائم, ضاق صدر الخديوي فركب مع وزيره شريف باشا لينفس عن نفسه, و قال للوزير: ماذا تصنع إن ألمت بك ملمة؟ قال: أجمع العلماء فيقرؤون لي صحيح البخاري, فيفرج الله عني.
فأمر الخديوي الشيخ العروسي (شيخ الأزهر) فجمع له جمعا من صلحاء العلماء و أخذوا يتلون البخاري, والهزائم تتوالى, فذهب الخديوي إسماعيل إلى الأزهر و معه شريف باشا وقال للعلماء محنقاً: إما أنكم لستم علماء, و إما أن ذلك ليس البخاري, فإن الله لم يدفع بكم و لا بتلاوتكم شيئا ... فوجم العلماء جميعا و سكتوا إلا شيخا كان في آخر الصف قال له: منك يا إسماعيل, فإنا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم ".
فزاد وجوم المشايخ, وانصرف الخديوي وشريف باشا ولم ينطقا بكلمة, و أخذ العلماء يؤنبون القائل و يلومونه, فبينما هم كذلك إذ عاد شريف باشا فقال: أين الشيخ المتكلم؟ فقال: ها أنذا. فأخذه و مضى, و انقلب العلماء الذين كانوا يلومونه يودعونه وداع من لا يرجى لقاؤه.
و أدخل الشيخ على الخديوي و هو في بهو قصر النيل, فأقعده على كرسي أمامه و قال: أعد يا أستاذ ما قلته لي في الأزهر. فأعاد الشيخ كلمته وردد الحديث و شرحه. قال الخديوي: و ماذا صنعنا حتى ينزل بنا هذا البلاء؟ قال له: يا أفندينا, أليس الربا مباحا بقانون؟ أليس الزنى برخصة؟ أليس الخمر مباحاً؟ أليس؟ ... و عدد له منكرات تجري بلا إنكار. قال: و ماذا نصنع و قد عاشرنا الأجانب و هذه مدنيتهم؟ قال الشيخ: إذن ما ذنب البخاري و ما ذنب العلماء؟ و متى كان البخاري لتلاوته و التبرك به؟ إنما البخاري لفهمه و العمل بما فيه. فأطرق الخديوي ساعة, ثم قال: صدقت .. صدقت. و أمر فرتب له ثلاثون جنيها في الشهر.
كتاب: مقالات في كلمات ... ص: 167 للشيخ: علي الطنطاوي
ـ[ابو انس المكي]ــــــــ[02 - 08 - 08, 12:12 م]ـ
شموخ العلماء الكبار
د. محمد عمارة
في تاريخنا العلمي والفكري كثيرا ما اقترن التألق العلمي بعزة النفس والشموخ والكبرياء المشروع.
لقد كان الخديوي عباس حلمي الثاني (1291 - 1363هـ/1874 - 1944م) يقول عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبدة (1266 - 1323هـ/1849 - 1905م) (إنه يدخل علي كفرعون) وكان جمال الدين الأفغاني (1254 - 1314هـ/1838 - 1879م) يداعب تلميذه محمد عبدة فيقول له: (قل لي ابن أي ملك من الملوك أنت)؟!
ولقد ورث الشيخ محمد مصطفى المراغي (1298 - 1364هـ/1881 - 1945م) عن أستاذه محمد عبدة (مع العلم والاستنارة، شموخ العلماء الكبار)
لقد قامت الثورة المصرية الكبرى عام 1919 والشيخ المراغي يعمل قاضيا بالسودان .. وكانت السلطة الحقيقية في السودان للاستعمار الإنجليزي –الذي قامت الثورة ضده في مصر- ورغم حساسية وظيفة القضاء إلا أن المراغي قاد الثورة الشعبية في السودان ضد الإنجليز وأصدر مع الثوار الذين قادهم نشرة عنوانها "اكتتاب لمنكوبي الثورة بمصر" كانت بمثابة صوت الثورة المصرية في السودان .. وطلب منه نائب الحاكم العام للسودان المستر (دن) إيقاف النشاط الثوري فرفض المراغي .. فلما قال له مستر (دن):
- إني أكلمك كرئيس! رد عليه الشيخ غاضبا:
- كنت أفهم أنك تعلم واجبك .. إنه ليس لي رئيس هنا فإن الحاكم العام معين بأمر ملكي، وهو الحاكم السياسي، وأنا معين بأمر ملكي من الخديوي، وأنا قاضي القضاة، ولا إشراف لأحد منا على الآخر ..
ولما بلغت أخبار هذا الحوار إلى الحاكم العام الإنجليزي للسودان .. علق عليه بالقول: لقد قلت للإنجليز هنا وفي لندن: إن الشيخ المراغي لا يمكن مناقشته، أو التغلب عليه ومن الصعب إقناعه إن الشيخ المراغي يعد من دهاة العالم! ..
ولقد كتبت صحيفة (التايمز) البريطانية معلقة على نشاط المراغي في السودان، فقالت: أبعدوا هذا الرجل فإنه أخطر على بلادنا من ويلات الحرب.
ولقد مضى الشيخ المراغي في قيادة العمل الثوري بالسودان فقاد –وهو قاضي القضاة- مظاهرة كبيرة .. وأخذ يجمع التوقيعات من المصريين والسودانيين تأييدا لزعامة سعد زغلول باشا (1273 - 1346هـ/1857 - 1927) للثورة وتوكيلا له ولصحبه في المطالبة بالاستقلال.
وتصاعد غضب الإنجليز على النشاط الثوري للمراغي .. فاقترح بعضهم سجنه .. وأقترح آخرون اعتقاله ونفيه .. لكن الحاكم العام للسودان خشى غضبة الشعب السوداني فقرر منح المراغي إجازة عاجلة ومفتوحة .. فعاد إلى مصر عام 1919، ليواصل دعمه لثورة مصر من أجل الاستقلال.
ومع هذا الشموخ في مواجهة الاستعمار والطغيان كان الشيخ المراغي نموذجا لتواضع كبار العلماء .. سئل عام 1941 .. وهو شيخ للأزهر من أحد الصحفيين: ما هي عيوبنا؟ .. فقال: إنها كثيرة ولكن، لماذا تسألني عن عيوب الناس؟. سلني عن عيوبي أنا فإنني وأنا في هذه السن المتقدمة وفيما أنا عليه من ضعف الصحة أقبل عملا من الأعمال العامة وكان يجب أن أتركه لشباب يستطيعون تحمل أعباءه أكثر مما أستطيع أنا .. وهذا عيب كثير ممن لا يتركون أماكنهم لمن هم أصلح منهم، ولو أن كل واحد منا ترك مكانه لمن هو أجدر به لأصبحنا في خير عظيم.
أما بقية عيوبي فإن الله يعرفها وأسأله تعالى أن يغفرها لي .. !
هكذا اقترن الشموخ بالتواضع .. واقترنت العزة بنقد الذات في حياة هؤلاء العلماء الأعلام
¥