التحق بالتعليم العام وقضّى فيه سنواتِه المقررةَ المرسومة، دون انقطاع أو ملل أو تكاسل، حتى نال الثانوية العامة بكفاية الشباب وعزم فِتيان الرجال. وكان للكتّاب أثرُه البالغ في هذا النجاح وذاك التوفيق، إذ إن "قرآنه" بإحكامِ آَيِهِ، وعمق فكره، وإجادة قراءته، وتجويد أدائه - كل ذلك قد منح الفتى الرجلَ حكمة التفكير، وحسنَ التدبير، والإفصاحَ عن كل ذلك بلسان عربي مبين، أغراه، بل دفع به دفعًا إلى حيث "العوربة"، انتماءً وفكرًا. ونموذجُها الصحيح الموثوق به، هو قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية.
انتقل صاحبنا "الراجحي" إلى الإسكندرية، مطبوعًا على "الانتماء" الذي شرب من أفاويقه على مصطبة القرية وصُبَّ في عقله صبًّا وملأ وجدانه، وأفصح عن نفسه سلوكًا وتصرفًا في دنيا الله.
وفي "عروس" البحر المتوسط، وجد العريس طِلبته، وفاز بحورته، فحلا له المُقام، الرائق المنعش، حتى يستطيع التوليدَ من فكره الخِصب، وينصرفَ في أناة وحكمة إلى رعاية ما يولّد وينتج، والدفعِ بكل ذلك إلى الميادين العربية، فارسًا من فرسانها المجلّين.
بدأ شوطَ الرياسة الثانية بآلياتها، وفعّلها على خير وجه، حتى تشقَّ له الطريقَ الصحيح وتكفلَ له إكمال المسيرة بنجاح وتوفيق، إلى أن حاز تاج التفرّد والامتياز في ميدان العلم والمعرفة بعامة، وفي ميدان الدرس اللغوي وما لفّه من ثقافات متنوعات على وجه الخصوص.
حصل على درجة الليسانس في الآداب من جامعة الإسكندرية سنة 1959م ثم عيّن معيدًا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب سنة 1961م، وخطا بعدُ خطواتٍ واثقةً في الدرس والتحصيل حتى نال درجَتي الماجستير والدكتوراه من هذه الجامعة، وتمّ له حصدُ هذه الدرجات العلمية جميعًا سنة 1967م.
وفي هذا العام نفسه عمل مدرسًا بقسم اللغة العربية. وتدرج الرجل في سلم الصعود العلمي الأكاديمي إلى أستاذ مساعد فأستاذ سنة 1977م.
ولم يقف الأمر بزميلنا الفاضل الدكتور الراجحي عند هذا الحد من المواقع الأكاديمية الفائقةِ القدْر الرفيعةِ القيمة في قوافل العلم والفكر، بل تعداه إلى ما هو أوسعُ وأرحب. رشحته عبقريته وأهّلته إمكاناته المنوّعة إلى تولّيه مناصبَ إداريةً علميةً ذاتَ شأن مقرر معلوم، في رسم الخطوط ولمِّ الخيوط، ومتابعةِ ما رُسم ونُظم بصدق وحزم. تولّى صديقنا المحتفى به عددًا كبيرًا من هذه المناصب الجامعة بين الحسنيين، نذكر منها ما يلي على ضرب من التمثيل:
عمل رئيسًا لقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، ثم وكيلاً للدراسات العليا والبحوث بالكلية نفسها، ومديرًا لمركز تعليم اللغة العربية للناطقين باللغات الأخرى، ومديرًا لمعهد الدراسات اللغوية والترجمة. وقد شرفت به كل هذه المناصب (وغيرُها) في إطار جامعة الإسكندرية. ولكنَّ همة الرجل ونجاحاتِه في تسيير شؤون هذه المناصب وتصريفِ أمورها قد شاع قدرها وعلا ذكرها، وامتدّ ريحها الطيبُ إلى مناطق أخرى في العالم العربي، حيث اختير عميدًا لكلية الآداب - جامعة بيروت العربية، ورئيسًا لقسم تأهيل معلمي اللغة العربية للناطقين باللغات الأخرى، بجامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية بالسعودية.
وطار ذكرُ الراجحي، واتسعت آفاق علمه وفضلِه، فلبّى دعواتٍ متعددات متنوّعات من جامعات وهيئات علمية، عربيةٍ وغير عربية، معارًا أو زائرًا أو مشتركًا في مؤتمرات وندوات.
أعير إلى جامعة بيروت العربية مرتين، كما أعير إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. ودُعي أستاذًا زائرًا إلى جامعة صنعاء، وجامعة "إرلانجن" بألمانيا.
أما حضوره إلى المؤتمرات والندوات واشتراكُه فيها بالبحوث والمناقشات والتعليقات فأمر فائق القدر في العدّ، عظيمُ الأهمية في معناه ومغزاه، ودليلُ عالمية الأستاذ، وأمارةُ سعةِ معارفه وعمقِ فكره. ويزيد من قيمة هذا الحضور، ويؤكد شمولَ المعرفة، وخاصّةَ الانتماء الحقيقي إلى الإنسانية في عمومها، بقطع النظر عن الزمان والمكان، أن كانت هذه المؤتمراتُ والندوات مشغولةً بدراسات وبحوث ذاتِ ألوان متنوّعات تقابل ألوانَ الفكر عند الإنسان واتجاهاتِه في الحياة، مهما بعُدَ موطِنهُ أو اقتربَ في الشرق والغرب على سواء.
¥