تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

غير أن هذا التضخم الأيديولوجي ما دام تعرض إلى النصوص الكريمة سيؤسس للكراهة والتنافر العقائدي؛ لأن ممارساته التحريفية اغتالت الإنسان وحنطت العقل واغتصبت الحرية، وستنتهي إلى تكرير مأزقية التحاقد، وتوليد القطائع التاريخية بين المستعمِر والمستعمَر. وإذا اختلت موازين القوى التكنولوجية، فإن الحاجة ستخترع موضوعها، أي أن الترعة الإنسانية التي كانت مفخرة الحداثة ستتساقط في العدمية لكونها استعادت تاريخ التوحش واستقدمت البدائية الأولى بعد أن أهدرت الحق الطبيعي (وهو الحرية وحقوق الإنسان).

5 - إن مصطلح "تنقيح القرآن" مشحون بالتباين والتسالب فيما بين حدي هذه العبارة المتوترة. فالتنقيح معناه التغيير بالزيادة والنقصان أو بكليهما، وينصبّ على المفعولات البشرية وكل ما ينتمي إلى الإنتاج الديني والفعل الإنساني. من هنا تسقط هذه العبارة المتشنجة في مأزق نهائي، وذلك حين يستقرئ التباين بين مفردات العبارة من جهة ما يكون التنقيح فعلاً بشريًّا تتقاذفه دوافع ثقافية واجتماعية وحضارية، إضافة إلى ما يصطبغ به من تحكم نفسي ومصلحي وأيديولوجي. وهذا بإزاء النص القرآني بمصدريته الإلهية، وانتمائه إلى دوائر الميتافيزيقا وهي متعالية على التقلبات البشرية، والتنافيات الثقافية الدائمة (وهذا ما يحتم العقل العلمي مراعاته واحترامه حتى ممن ترك الإيمان بذلك).

وبما أن هذا الطريق يؤدي إلى طرق في مختلف مسالك الثقافة والاعتقاد (اللاإسلامي)، فإن إرادة تفكيك النص القرآني في هذه اللحظة التاريخية التآمرية هي دعوة دوغمائية جاهزة تفضي إلى الاستنتاج البديهي والتلقائي أن مقولة تنقيح القرآن مشحونة بإرادة التسلط، وممهورة بنظام الغلبة العولمي. وهذا يعني أنها تتغيا إسقاط مفاهيم أيديولوجية قبلية على مضامين القرآن الكريم من أجل صهره داخل بوتقة المسبقات الفكروية (التي تزعم الانتماء للفكر)، وقولبته طبقًا لتوجه فرداني وعقل كلي مركزي يتغنى بالتحكم في السياقات والمفاهيم والقيم الاختلافية من أجل فرض أيديولوجيا وفكر عولمي واحد ووحيد تطمس فيه الغيرية والتعدد، وينتهك حق الآخر الثقافي، وهو ما يتناقض مع منطق الحضارة، وقد أَمّنت الناس من تعقب المعتقدات والآراء. وذلك في إطار الامتياز التحرري الذي يطمح إليه إنسان الحداثة، وقد تجاوز (ولو نظريًّا) أزمنة البداوة والتوحش والاعتداء، وجعل الحوار بين الحضارات أساسًا وجوديًّا ما كان ليعني تبديد هذه الحضارات؛ لأن المشهد الكوني لا يتناسق إلا بالتعدد والاختلاف.

حصانة القرآن .. ليست سياسية

لكن هذه المخاطرة الثقافية لم تعدّ لهذه المواجهة مع العالم الإسلامي عدتها المفهومية؛ لأن الإيمانية ليست ذات مرجع سلطوي؛ فهي شعبية جماهيرية، ولهذا فإن مشروع تنقيح الكتاب المؤسس ليست وظيفة سياسية تدفع من خلالها الأمركةُ المؤسساتِ السلطوية إلى فرض مرادات استعمارية وانتزاع إرادات المتلقين من أجل تدجينهم وفك روابطهم مع ذواتهم.

ورغم أن السلطة عدوة للكلمة، وبما أن الأيديولوجيا المهيمنة -وهي أفكار الطبقة الغالبة- ستظل تمد ظلالها على قراءة النصوص -كما يقول بارط [4] ( http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1173696641458&pagename=Zone-Arabic-MDarik%2FMDALayout#1) - فإن هذه الإرادة الإمبريالية نظرا لما تحمل من تزوير وتدليس وتحد، لن يقبلها العقل الإسلامي وإن تفككت روابطه مع القرآن الكريم في الحياة اليومية وألغى الإسلام كمشروع وطني.

وإذا لم يُعجِب أمريكا دفاعُ الكائن الإسلامي عن ذاتيته، واستمساكه بهويته، وأرادت صناعة مسلم انهزامي استسلامي جديد، فإنه يتوجب عليها أن تبحث عن ذلك داخل مدارات مدنسة متباعدة عن المقدس؛ لأن ما تبيت له، من رسم صورة بورنوغرافية للمرأة العربية، أو تنصيع سمعة اليهودي الصهيوني وغيره من المتطرفين الذين أحسن القرآن -كعادته ببيانيته- تعرية حقائقهم وكشف تآمراتهم، فإن هذا الهاجس الرومانسي، والحنينية إلى الإطاحة بالمقدس لن يجدياها نفعًا؛ لأن الأمة، وإن تراءى للبعض -كما في العراق- أنها انهارت، إلا أنها محصنة بجهاز مناعي لن تفككه لحظة اللين، ومناخ الاختراق الذي جللها بالوهم. وستبقى للقرآن وظيفة توحيدية ولو ترميزًا ومجازًا. ثم إن الأحرار في العالم سيقاومون فكريًّا وثقافيًّا هذا الإرهاب العقائدي والقمع الاستعماري للأديان الذي انتهى إليه صدام الحضارات.

ولن يغني شيئًا أن يتم البحث في مزابل التاريخ عن مقولات تبريرية متهاوية عساها تشفع لتلك المحاولات لما تحمل من الالتباس والضبابية لتلفيق سياق مدلس ودلائل نمطية للقرآن الكريم.

كاتب وأكاديمي من تونس.

[1] في "الفكر الإسلامي .. نقد واجتهاد"، 77 ـ 1990م

[2] في "أركيولوجيا المعرفة" طبعة غاليمار الفرنسية 250 ـ 1969

[3] في كتابه: قل، لا تقل: مبادئ دلالية لسانية ـ باريس ـ هارمان 1972 ـ 5.

[4] في "لذة النص"، سوي ـ باريس 1973/ 54.

المصدر:مدارك ( http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1184650719076&pagename=Zone-Arabic-MDarik%2FMDALayout)

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير