تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلا يمكن أن تكون نزعة القتل المعاصرة قانونًا لتفكيك النص القرآني وإسناد وظائف مناهضة لدلائله على وجه الاستبدال. ذلك أن المشروع الإسلامي الإحيائي لا يتمثل النهاية بالموت. لقد أزال العدم من مخزونه الروحي، ونحن نقرأ في سورة [الأنفال/ 24] (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم .. ) ولهذا بقيت الكلمة القرآنية؛ لأنها مصدر وجود ينشر الحياة ويبشر بالتواصل الميتافيزيقي والخلود، وانهار مسلسل الدعوات التدميرية التي بشرت بموت الدين كما بشرت بموت كل شيء. وقد مات فرويد ودوركايم وشتراوس وفيبر، واندثرت الشيوعية والشيوعيون، وعادت الميتافيزيقيا، وبقي الدين دعامة أساسية تنير روح الكائن المعاصر البئيس كلما عتمها المدنس، وأحست بالاستلاب عن مسارها الفطري إلى إشراقة الوجود.

خسوف العقل التلفيقي

تسجل مقولة تنقيح القرآن الكريم انقطاعات جذرية مع العقل العلمي، ومع المسار الطبيعي لممارسات الذوات المفكرة، وهذا إضافة إلى انتهاك البنية التحتية للكائن الوجودي، وأعني بها هنا الفطرة البشرية التي ترنو وتتطلع على الدوام إلى إله يحل ألغاز الرعب الميتافيزيقي (الغيبي)، ويلغي الشعور الكامن لدى الكائن بالعدمية واللاجدوى.

وقد قوضت مقولة التنقيح ذاتَها من خلال جملة من التناقضات والتهافتات التي تعكس تشنجها واقتناعها بضحالة مشروعها:

1 - ظل أبطال التنقيح منزعجين، وقد خابت آمالهم في تصدع الدين وموت الكائن الإيماني، فقاموا يندبون سوء الطالع لاحتكار الدين من قبل المتخصصين في الشرعيات تارة، ومن قبل المتطرفين أطوارًا أخرى. إذ لا وصاية على الدين فهو مشاع للجميع. ولكنهم قرروا أخيرا أن يتحولوا إلى أوصياء على الدين، وعلى المسلمين في العالم، وذلك حين أصرت انفعالاتهم على أن يصنعوا للأمة قرآنًا .. هكذا!! ودفعة واحدة: قرآن جديد (غير مجيد)، ومعان عولمية لدين آخر ليس بعده دين للعرب ولمسلمي العالم. فحكمت بذلك على نفسها بالتطرف الذي كانت تصف به الناس؛ إذ كل خروج عن حدود المنطق والمعقولية والتوازن تطرف خطير الصيرورة وعكسي النتائح.

2 - إن التطرف والإرهاب كليهما رد فعل عكسي على الاستفزازات، وعلى الاحتكارية التي تمارسها القوى الكولونيالية (الاستعمارية) وأياديها في العالم الإسلامي للهيمنة على معتقدات الناس وتحديد هوياتهم وأنظمة تفكيرهم. ولكن الانتهازيين لا يناسبهم من أجل التعيش بالأموال الإمبريالية إلا أن يغذوا أسباب التوتر وتفجير الأوضاع للمحافظة على منابيع الآمال والأعمال؛ لأن الاستقرار يفسد عليهم أسباب التكسب والاسترزاق بالرشاوى الاستعمارية. ولكنهم - كما يقول القرآن - متى ما استحصلوا عليها (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) [سورة الأنفال/ 36].

3 - إن محاولة تدليس النص القرآني هذه، ليست سوى نزعة عبثية؛ لأن هذا الكتاب الكريم قد قهر الزمان، بما أنه تأسس على الخلود؛ فقد اندثرت قوى الطعن والتحريف بغوغائياتها، وظل النص متصدرًا مشاهد الوجود. فالقرآن منحوت في الذاكرة الإسلامية ومنتقش في أعماق العقل الإيماني. إضافة إلى أنه مخزون ورقيًّا وإلكترونيًّا وتكنولوجيًّا. ومع ذلك فإن المثقف الإيماني -ومن ورائه المجتمع المدني وكل مثقف موضوعي- سيحبطون هذه المساعي الاعتباطية كما في كل مرة تتصدى الهيمنة لتحريف التاريخ، واجتثاث حقائقه منه.

4 - إن محاور الحداثة الثلاثة: الإنسان والعقل والحرية استقطبت العقل الإنساني لكونها فتحت الوعي البشري المنغلق، على التواصل والتثاقف واكتشاف الذات جدليًّا بالتحاور مع الآخر. لكن هذه الحداثة وقد سارعت إلى إفراغ الهويات من محتوياتها وخصوصياتها حين اكتسحتها العولمة المشحونة بإرادة الهيمنة، فإنها تحولت إلى أيديولوجيا قمعية وهي تسعى إلى أمركة العالم وتقسيمه إلى مركز وأطراف، بفرض الحراسة والعقاب على المعتقدات والاستثمار في القيم المقلوبة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير